الصين.. واتفاق بلازا الذي «أقعد» اليابان

22:21 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد *

في خضم الحرب الباردة الجديدة بين أمريكا والصين، على صعيدها الإعلامي الدعائي، أقحمت الميديا السائدة في أمريكا اسم اليابان في هذه الحرب. فذكّرت الصين بما حصل لليابان حين شكلت تهديداً اقتصادياً وتكنولوجياً جدياً للولايات المتحدة. الحديث يتعلق بالضغوط الهائلة التي مورست على طوكيو في ثمانينات القرن الماضي (1985) لإجبارها على رفع قيمة عملتها (الين) في إطار ما سُمي باتفاقية بلازا

“Plaza Accord”، والتي أدت إلى إنهاء نموذج التنمية الياباني القائم على التصدير للسلع اليابانية بأسعار تنافسية. حيث تضخمت فقاعات الأصول اليابانية، لاسيما أسعار العقار والأوراق المالية أربع مرات في ست سنوات أواخر ثمانينات القرن الماضي، وانتقلت مصانع السيارات اليابانية إلى الولايات المتحدة، وتم تسليم تكنولوجيا أشباه الموصلات التي كانت تحوزها شركة «إن إي سي»، و«توشيبا» وغيرها، إلى شركة «إنتل» الأمريكية.

بتاريخ 19 أيلول/سبتمبر 2023، نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية مقالاً تحت عنوان «هل المأزق الاقتصادي الذي تعيشه الصين لا يقل سوءاً عن المأزق الذي تعيشه اليابان؟ يمكن أن يكون أسوأ»، وجاء فيه أنه ابتداءً من تسعينات القرن العشرين، أصبحت اليابان مرادفاً للركود الاقتصادي، حيث أفسحت الطفرة الطريق أمام النمو الخامل، وانخفاض عدد السكان، والانكماش الاقتصادي. تقول الصحيفة المعبرة عن الحزب الجمهوري الذي يطرح محاربة الصين كأولوية، بأن مشاكل الصين أكثر تعقيداً من مشاكل اليابان في العديد من النواحي. مستويات دينها العام أعلى في بعض المقاييس مما كانت عليه في اليابان، والتركيبة السكانية لديها أسوأ. كما أن التوترات الجيوسياسية التي تتعامل معها الصين تتجاوز الاحتكاكات التجارية التي واجهتها اليابان ذات يوم مع الولايات المتحدة. على هذا الأساس تتوقع الصحيفة الجمهورية مصيراً للصين مشابهاً لمصير اليابان في ثمانينات القرن الماضي.

هو أحد ضروب التفكير بالتمني أو التفكير الرغائبي (Wishful thinking) ليس إلّا. فالصين لن تفعل أي شيء من ذاك الذي فعلته اليابان تحت التهديد. فهي ليست محتلة كما اليابان، بل هي أصبحت اليوم نداً للولايات المتحدة، وهو ما لم تكنه اليابان التي لم تمتلك أبداً مصادر القوة التي تحوزها الصين اليوم؛ ولم تكن اليابان أبداً مصنعاً للعالم كما هي الصين اليوم، ولم يرتبط اقتصاد اليابان أبداً بالبيئة الأمريكية كما هي حال الصين اليوم. لذا، إذا كانت الولايات المتحدة تعتقد أن بإمكانها أن تفعل بالصين مثلما فعلت باليابان، حيث تخضع كل شركات التكنولوجيا الفائقة الكبرى في اليابان لسيطرة رأس المال الأمريكي، بعد أن قامت بقرصنة وسرقة التكنولوجيا المتقدمة من اليابان تحت التهديد بالعقوبات والمجاعة القسرية، لأنها افتقدت القدرة على تطوير وبناء هذه التكنولوجيا بنفسها، فهذا لن يحدث مع الصين.

اليوم – وهذا ما لم يرد في مقال وول ستريت - لا يعود 80% من الصينيين الذين يدرسون في الولايات المتحدة إلى الصين وحسب، بل هناك اتجاه جديد ملحوظ، متمثل في أن الأثرياء من الشباب الصيني الذين درسوا في جامعات هارفارد وكامبريدج وغيرها من الجامعات الغربية المرموقة، والذين عاشوا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا لسنوات أو عقود، يعودون الآن إلى الصين، في ظل تزايد الفرص التجارية أمامهم، وانبعاث الفخر بالصين، وخسارة الغرب لجاذبيته. هذا لا ينطبق فقط على الصينيين الأصليين، بل يشمل الصينيين المولودين في الخارج الذين يعودون أيضاً من سنغافورة وتايوان وماليزيا والفلبين بحثاً عن فرص في الصين بعد أن أمضوا سنوات في البلدان الغربية. فبالنسبة لهؤلاء، الصين هي الولايات المتحدة الجديدة، والولايات المتحدة الآن هي روسيا السوفييتية. فلطالما جلبت هارفارد وغيرها من الجامعات الأمريكية العريقة، النوابغ من البر الصيني، ومنهم مؤسس مجموعة Alibaba، جاك ما، ولي جون من شركة Xiaomi Corp، وستيفن شوارزمان من شركة Blackstone Inc، وراي داليو من Bridgewater Associates، وغيرهم. هذا التدفق من الصينيين باتجاه الغرب بدأ يضمحل الآن. فبالنسية للعديد من النخبة الطلابية الصينية، أصبحت الصين أكثر جاذبية لهم. فقد غدت الصين موطناً لاثنين من أكبر خمسة مجمعات للعلوم والتكنولوجيا في العالم

“Science and technology clusters”، ما وضع شرق آسيا على رأس التصنيف العالمي لمؤشر الابتكار العالمي (GII) الذي أصدرته المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) في 14 سبتمبر 2022. وكان العدد الإجمالي لهذه المجمعات قد بلغ في الصين قبل صدور هذا المؤشر، 21، أي ما يساوي عددها في الولايات المتحدة. علماً بأن تجمعات العلوم والتكنولوجيا هي من بين المكونات الأكثر أهمية للأداء الابتكاري لأي اقتصاد. فهي تجمع بين العلوم والشركات ورجال الأعمال معاً، لإنتاج الأفكار العلمية وتحويلها إلى منتجات. لهذا فإن الصين لن تكون اليابان لسبب بسيط وهو أن الصين دولة ذات سيادة، بينما اضطرت اليابان، إلى الإقدام على الانتحار في ثمانينات القرن الماضي من خلال مضاعفة قيمة الين، ما سمح للولايات المتحدة بتقويض صناعاتها وبضمنها تكنولوجيا أشباه الموصلات والاستيلاء عليها.

* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3rc65x5j

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"