عبدالناصر في غزة.. الذاكرة والقضية

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

لم يكن بوسع الضابط الشاب، الذي تجاوز بالكاد الثلاثين من عمره، وهو يصل بقطار عسكري إلى غزة يوم 3 يونيو 1948 أن يتوقع، أن تجربة الحرب في فلسطين سوف تحكم الخطوط العريضة لتوجهاته وتدفعه - بعد توقف معاركها والعودة للقاهرة - إلى إعادة بناء تنظيم «الضباط الأحرار» من جديد، وتشكيل هيئته التأسيسية، التي أطلت على مسارح السياسة الملتهبة يوم 23 يوليو 1952.

تحت وهج النيران في فلسطين، اكتشف جمال عبدالناصر هويته العربية، وأن مصير مصر يرتبط بما يحدث ويتفاعل في عالمها العربي. تلك حقيقة لا يمكن نفيها في ظل ما سجله في دفتر يومياته الشخصية التي كتبها على مكتب فوقه لمبة غاز أثناء حرب فلسطين.

على مدى ستين سنة كاملة، لم يتح لأحد من معاونيه ومقربيه وأسرته نفسها أن يدخل في علمه أنه كتب يوميات أثناء الحرب، وأنها في عهدة الأستاذ محمد حسنين هيكل، منذ عام 1953 حتى حصلت عليها ونشرتها عام 2009. كانت الأجواء محبطة في ميادين القتال، والجاهزية العسكرية في أدنى درجاتها.

بلغ ما استطاعت حشده الوكالة اليهودية 81 ألف مقاتل معظمهم ضباط اكتسبوا خبرة عسكرية في سنوات الحرب العالمية الثانية، فيما كانت أعداد الجيوش العربية مجتمعة 37 ألف ضابط وجندي.

وكانت أعداد الطائرات التي في حوزة الطرف الآخر 78 طائرة عند بداية الحرب، فيما لم تتجاوز ال30 طائرة على الجانب العربي، حسب ما أورده «هيكل» في «العروش والجيوش».

«يوميات الحرب»، تأخر نشرها لعقود طويلة حتى قرب نهاية القرن العشرين، كما حدث تماماً في يوميات «عبدالناصر» الخطية.

كان دخول الجيوش العربية حرب فلسطين بالطريقة التي جرت بها مقدمة هزيمة محققة. وكان رأي الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين والمتحدث الأول باسم شعبها، أن تُسند مهمة المواجهة العسكرية إلى جماعات المتطوعين ودعمها بالسلاح والمال، على أن تبقى الجيوش رابضة على الحدود متأهبة ومستعدة.

في المشهد العسكري لحرب 1948 نسبت إلى رجلين، أكثر من غيرهما، مسؤولية النكبة.

الأول: اللواء المصري «أحمد المواوي»، قائد حملة فلسطين، وقد نالته انتقادات حادة من الضابط الشاب في دفتر يومياته.

بعد الحرب حاول «المواوي» أن يبرئ ساحته، كاشفاً عن مخاطبات كتبها لقيادته يحتج فيها على إرسال القوات من دون تدريب كافٍ، أو أسلحة لازمة.

والثاني: الجنرال الإنجليزي «جون باجوب غالوب»، الذي أسندت إليه القيادة العامة للجيوش العربية، وكانت إدارته للحرب من عَمّان، التزاماً كاملاً بالاستراتيجية البريطانية، لم يتجاوز خطوط التقسيم المنصوص عليها في قرار الأمم المتحدة، حين كان متاحاً التقدم وكسب الأرض.

بقدر حجم الأثر، الذي خلفته حرب فلسطين، فإن مضاهاة الروايات بكل تقاطعاتها يكشف وينير القصة الكاملة ومدى ما خلفته من جراح عميقة في الوجدان العربي.

عندما صدرت للضابط الشاب أوامر الانسحاب من الخليل يوم الخميس 21 أكتوبر قبل أن يلغى، كَتَبَ في دفتر يومياته:

«.. إن انسحابنا سيعرّض جميع السكان في عراق سويدان وبيت جبرين إلى التشريد».

«تصورت منظر الأطفال والنساء والعائلات عند انسحابنا». «سنقاوم إلى آخر رجل.. لقد فقدنا الإيمان في قيادة الجيش.. وقيادة البلاد».

في هذه اللحظة ولدت الثورة في قلب رجل واستقر عزمه على إعادة تأسيس تنظيم «الضباط الأحرار».

تكاد تكون تلك العبارات الصريحة لضابط في ميدان قتال، بدواعي غضبها، البداية الحقيقية لقصته كلها، كأنها نقطة تنوير مبكرة في نص روائي طويل.

بدا عبدالناصر مقتنعاً بما قاله أحمد عبدالعزيز قائد المتطوعين المصريين في حرب فلسطين قبل استشهاده: «التغيير يبدأ من القاهرة»، لا شيء يولد في التاريخ من فراغ.

كانت حرب فلسطين ببطولاتها وأوجاعها وما كشفته من أوضاع مختلة في قيادة الجيش وقيادة البلاد هي المحرك الأول لما جرى في مصر بعد أقل من أربع سنوات على إطاحة النظام كله.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/7ndkdmd3

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"