استهداف الإنسانية وتراجع التسامح

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان

ما تنقله الصور عن بشاعة مشاهد انتهاك حقوق الإنسان في غزة، يؤسس لمزيد من ثقافة الكراهية، ويساعد على تراجع مشاعر التسامح بين الناس، ويطعن بالصميم في مندرجات القواعد القانونية، ويشوّه التقاليد والأعراف التي درجت عند الشعوب والجماعات التي ذاقت لوعة الحروب ومآسي الاقتتال.

منذ ما قبل ظهور الديانات السماوية السمحاء؛ تأسست ملامح ثقافة تدعو إلى الرأفة والمساواة والعدل بين الناس، شجّع عليها فلاسفة وحكماء أمثال موزا في الصين وحمورابي في بلاد ما بين النهرين وغيرهما، وجاءت الديانات الإبراهيمية لتؤسس لمقاربة توحيدية تعتمد على الخشوع لله تعالى، وتحترم مخلوقاته التي يتقدمها الإنسان الذي خصّه الله بفرادة بشرية راقية، تستند إلى رجاحة العقل وإلى سمو النفس وإلى أسبقية كلمة الحق على باطل الغريزة. اختلفت المجموعات البشرية على مدى الأزمان، وحصل التباين بين الإمبراطوريات والدول، لكن تطور البشرية فرض نفسه، واستفاد العالم من التجارب المريرة السوداء، وأسس لتعاون أنتج حداثة خفّفت عن كاهل الناس مشقات كبيرة. وعلى الرغم من كل شيء؛ ارتقت البشرية إلى مصافٍ جديدة، عمادها احترام حقوق الإنسان الطبيعية، باعتباره كائناً بشرياً يحمل مشاعر إنسانية فطرية واحدة، ويحتاج إلى توفر مقومات الحياة البديهية من الهواء والغذاء والماء والسلامة الجسدية، بصرف النظر عن جنسه ولونه و دينه وانتمائه القومي أو العرقي.

جور السياسات الدولية الاستعمارية في القرون الماضية؛ أفضى إلى إنتاج مجموعة من المشكلات الكبرى، وفي طليعة هذه المشكلات ما يحصل في فلسطين كونها ضحية من ضحايا التنافس الدولي، وهذا التنافس أسهم في القرن العشرين بتغليب منطق القوة، على منطق الحق، وكان ما كان في فلسطين، وحلّت النكبة على شعبها بكل أطيافه، ولم تتمكن الأمم المتحدة من فرض قراراتها بتقسيم البلاد وإنشاء دولتين لشعبين، وتحمّلت فلسطين فاتورة التوحش النازي من خلال نتائج المحرقة، ودفعت القوى الاستعمارية بمجموعات غريبة إلى أرض فلسطين على حساب سكانها الأصليين.

بعد أكثر من 55 عاماً على النكبة؛ أطلقت القمة العربية التي عقدت في بيروت عام 2002 مبادرة سلمية، استندت إلى أساس قرار الأمم المتحدة لعام 1947، وطالبت بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية إلى جانب دولة إسرائيل، لكن المبادرة العربية لم تلقَ الآذان الصاغية في إسرائيل، وهو ما أسهم في تفاقم الاضطهاد، وشعر الشعب الفلسطيني بأنه متروك لقدره القاتم وسط عدوان مستمر عليه، ومن خلال القوة العسكرية المعززة بآلات القتل والدمار الحديثة، إلى أن وصل الأمر لهذه المشهدية المؤلمة في قطاع غزة، والتي لم يشهد التاريخ مثيلاً لوحشيتها.

قصف قوات الاحتلال الإسرائيلي للمستشفيات ودور العبادة والتجمعات المدنية المسالمة؛ لا يمكن تبريره تحت أي حجة. وما تقوم به هذه القوات في غزة عبارة عن عملية إبادة جماعية للشعب الفلسطيني- وفقاً لتوصيف القمة العربية والإسلامية التي انعقدت في الرياض- وهذا التوحش لن يحل المشكلة المطروحة؛ بل على العكس من ذلك؛ سيفاقم حالة الغضب.

مشاهد قتل الأطفال والمرضى وتهديم المنازل على سكانها، ومنع إدخال الطعام والماء والدواء والمحروقات إلى المدنيين؛لا يمكن تبريرها تحت أي حجة. وتقع تحت مساءلة قانونية دامغة، ووصفتها اتفاقيات جنيف- لا سيما الاتفاقية الرابعة- بأنها جرائم حرب، وإبادة جماعية، وهو ما يوجِب على المحكمة الجنائية الدولية الدائمة أن تتحرك تلقائياً لملاحقة مرتكبيها أياً كانوا، وفق ما يفرضه ميثاق روما لعام 1998 الذي تأسست بموجبه المحكمة.

إن الآلام التي يعيشها الشعب الفلسطيني، والجرائم التي ترتكب بحق المدنيين؛ هي استهداف للإنسانية جمعاء، وليس للشعب الفلسطيني وحده. وهي أعمال ستشجع حتماً على ثقافة الكراهية والعداء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2byk5w9b

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"