مسار اقتصادات دول الخليج إلى ما بعد النفط

21:29 مساء
قراءة 5 دقائق

سامي شعار*

تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بثقل اقتصادي يفوق حجمها؛ حيث تمثل مجتمعة أقل من 1% من سكان العالم إلا أنها تُسهم بنحو 2% من إجمالي الناتج العالمي، وأكثر من 10% و20% من إنتاج الغاز والنفط على الترتيب. وقد أدت القيود المفروضة على تجارة روسيا للنفط والغاز، إلى زيادة نفوذ دول الخليج كموردين بدلاء في أسواق الطاقة. وأسهمت أحداث عالمية، مثل استضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم و«إكسبو دبي» ومؤتمر «COP28» في تعزيز مكانتها كمراكز دولية محورية. وتبذل دول مجلس التعاون الخليجي جهوداً للحفاظ على مرونتها الاستراتيجية، على الرغم من الانفصال الحاصل بين الكتل الجيوسياسية العالمية بقيادة الولايات المتحدة والصين. وقد تمّ توجيه الدعوة لكل من السعودية والإمارات، للانضمام إلى «البريكس»، وهو تجمّع جيوسياسي يضم بعضاً من أكبر الاقتصادات وأسرعها نمواً في العالم ومن بينها الصين.

يبدو تركيز دول مجلس التعاون على تعزيز مرونتها الاستراتيجية واضحاً من خلال تدخلاتها في أنشطة سوق النفط. ومع انخفاض النفط والغاز اللذين يشكلان معاً عمادها الاقتصادي وانخفاض الإمدادات الروسية، فقد شهد العام 2022 نمواً ملحوظاً في العديد من دول مجلس التعاون الخليجي، والتي حققت نمواً في إجمالي ناتجها المحلي بنسبة 8,7% في المملكة العربية السعودية و8,2% في الكويت.

ومع تباطؤ النمو العالمي في العام 2023، قامت منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) بالإضافة إلى الدول غير الأعضاء الرئيسية (أوبك +)، ومن بينها خمس من دول مجلس التعاون الخليجي، بخفض إنتاج النفط، كما أجرت السعودية تخفيضات إضافية في الإنتاج. ونتيجة لذلك، وللارتفاعات الحادة في أسعار الفائدة، نتوقع أن يتباطأ النمو في العام 2023 بنسبة 0,2% في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي الستّ، وستعوض قوة اقتصادات دولة الإمارات وقطر الضعف الذي سيطرأ على اقتصادات السعودية والكويت. وفي ظل افتراضنا بالتراجع التدريجي عن تخفيضات إنتاج النفط في العام 2024 بالنسبة لبعض اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، إلى جانب التخفيضات النهائية في أسعار الفائدة، فإننا نرى انتعاشاً للنمو في العام 2024.

ومن وجهة نظرنا، سيكون لتباطؤ الأنشطة تأثير محدود على الآفاق المستقبلية لدول مجلس التعاون الخليجي على المدى المتوسط. وقد أدى تمديد تخفيضات الإنتاج، إلى زيادة احتمال مراوحة أسعار النفط الخام عند 90 دولاراً للبرميل في الأشهر المقبلة، وهي أعلى من المستويات اللازمة لتحقيق التوازن في ميزانيات الحكومات في جميع أنحاء المنطقة.

وبما أن هذه المستويات (المشار إليها باسم «أسعار التعادل المالي») أعلى بشكل عام من تلك المطلوبة لموازنة الحسابات الجارية لدول مجلس التعاون، فسوف تكون تلك الدول قادرة، إما على الحفاظ على فوائض مضاعفة مثل دولة الإمارات وقطر أو الحد من العجز المالي الناجم عن تباطؤ الاقتصاد. كما هو الحال في اقتصاد السعودية والكويت.

ستكون مساعي إنجاز الأجندات الوطنية للتحول الاقتصادي، هي القوة الدافعة الرئيسية لسياسات دول مجلس التعاون الخليجي خلال السنوات المقبلة. وقد أعلنت الدول الست، عن خطط اقتصادية طويلة الأجل وصفتها بال «رؤية» والتي تتضمن أهدافاً محددة لتنويع الاقتصادي وتنمية رأس المال البشري وتخضير إمدادات الطاقة. ويبدو أن الالتزام السياسي بهذه الخطط قوياً، وذلك في الوقت الذي تواجه فيه المنطقة تحديات ناجمة عن التحول العالمي نحو السيارات الكهربائية والطاقة النظيفة. وتشكّل ذروة الطلب المتوقعة على النفط خلال السنوات الخمس إلى العشر المقبلة، تحدياً قوياً لدول مجلس التعاون الخليجي؛ حيث يعتمد 30 إلى 50% من إجمالي الناتج المحلي على قطاع النفط والغاز. ولذا، سيتم منح الأولوية لتمويل وتسهيل المشاريع المرتبطة بالرؤى الوطنية، ونتوقع أن ترتفع حساسية دول مجلس التعاون لأسعار النفط خصوصاً خلال السنوات المقبلة.

ونتوقع أن تنمو الاستثمارات في هذه المشاريع بوتيرة متسارعة. وقد شهدت ذلك بالفعل، وتجسدها الاستثمارات الضخمة للسعودية في قطاع السياحة والترفيه. فضلًا عن المشاريع الأخرى العملاقة، مثل «نيوم»، وهي مدينة مستدامة جديدة، بالإضافة إلى مشروع مطار الملك سلمان الدولي. كما قفزت استثمارات القطاع العام في دولة الإمارات خلال العامين الماضيين، وتصدرت الإمارات دول المنطقة في مجال الاستثمار في مجال الطاقة الشمسية. وستحذو حذوها دول أخرى في مجلس التعاون الخليجي الأخرى، التي ستأخذ دورها بعد جيرانها الأكبر حجماً، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف النطاق العام للاستثمار.

وستعتمد مدى فاعلية تنفيذ هذه المشاريع بشكل كبير على إصلاحات الأطر المالية العامة وقطاع الطاقة وهياكل سوق العمل. وبينما لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين على دول مجلس التعاون القيام به، فإننا نلاحظ بعض التحسينات الملموسة خلال السنوات الأخيرة. فقد انخفض الاعتماد المالي على قطاع النفط بسبب إدخال ضرائب القيمة المضافة وضرائب دخل الشركات، كما هو الحال في السعودية. وقد بدأ تعديل الحد الأقصى لأسعار وقود المركبات، لتقليص الفجوة مع أسعار السوق. وشهد إنتاج الكهرباء من مصادر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح نمواً بنسبة 61% على أساس سنوي منذ العام 2015. وفي الأثناء، ارتفعت معدلات مشاركة السيدات في القوى العاملة بشكل كبير وملحوظ في السعودية والإمارات وقطر. ومن شأن استمرار هذا التوجه المتصاعد في معدل مشاركة السيدات في قوة العمل، أن تكون له نتائج إيجابية على التوقعات الطويلة الأجل لهذه الدول، خاصة أنها تتمتع بأفضل الخصائص الديموغرافية بالمقارنة مع الأسواق الناشئة.

إن الصراع المأساوي الأخير بين إسرائيل وحماس يثير بعض المخاوف بشأن مستقبل المنطقة، ولكننا ما زلنا نرى أسباباً معقولة للافتراض بأن دول مجلس التعاون الخليجي سوف تختار في نهاية المطاف الوضع الاستراتيجي الراهن، حيث تتطلب خططهم التنموية طويلة المدى، الاستمرار في تجنب اندلاع صراع جيوسياسي جديد في المنطقة. وبذلك فإن أي ارتفاع في أسعار النفط يمكن أن يضر بقطاع النفط في المنطقة، من خلال المزيد من تسريع الخطى العالمية للتوجه نحو الكهربة بشكل أكبر. ومع ذلك، فإن طبيعة الصراع وحجمه الذي لا يمكن التنبؤ به سيتطلبان مراقبة دقيقة.

انخفض معدل التضخم في المنطقة من أعلى مستوياته في العام 2022، بعد الارتفاعات السريعة التي شهدتها أسعار الفائدة. إن ربط عملات الدول الخليجية بالدولار الأمريكي (أو سلة من العملات ومن بينها الدولار في الكويت) يربط قرارات السياسة النقدية لدول مجلس التعاون الخليجي بقرارات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. وقد تزامنت هذه المرة الاتجاهات في اقتصادات الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي على نطاق واسع، ما جعل الزيادات الأخيرة في أسعار الفائدة تبدو كاستجابة مناسبة لحيوية النمو والتضخم في دول مجلس التعاون الخليجي.

* كبير الاقتصاديين في «لومبارد أودييه».. وشارك في كتابة المقال هومين لي، كبير الخبراء الاستراتيجيين في الاقتصاد الكلي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/49ces8x3

عن الكاتب

كبير الاقتصاديين في «لومبارد أودييه»

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"