آخر تجليات كيسنجر

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. محمد السعيد إدريس

رحل هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي وزير الخارجية الأمريكي الأشهر عن مئة عام، استطاع خلالها أن يؤسس لمدرسة فريدة جمعت بين علم السياسة والحركة السياسية، على العكس تماماً من نظرائه الأكاديميين الذين اكتفوا بالإبداع الأكاديمي والعلمي، من دون انخراط في العملية السياسية وشؤون الحكم، إما تعففاً وإما عجزاً، كما تميز أيضاً عن نظرائه من رجال السياسة الذين أخذتهم العملية السياسية، وحالت بينهم وبين مواصلة التزود بالثقافة العلمية، وكانوا يعوضون ذلك بالاعتماد المسرف على المستشارين ومراكز البحوث والدراسات.

وحده كيسنجر استطاع أن يكون أحد أبرز علماء العلاقات الدولية، وأبرع وزراء الخارجية، ليس في الولايات المتحدة فقط، فهو الذي استطاع أن يحدث انقلاباً غير مسبوق في الحرب الباردة التي هيمنت على العلاقات الدولية خلال عقدي الخمسينات والستينات، وأن يدير حواراً مع الاتحاد السوفييتي لينقل هذه الحرب الباردة إلى «الانفراج» الذي تحول، فيما بعد، إلى «انفتاح» في العلاقات الأمريكية – السوفييتية آل في نهاية المطاف إلى انتهاء الحرب الباردة، بعد أن نجح أيضاً في إحداث اختراق غير مسبوق في العلاقات الأمريكية – الصينية.

هذان الاختراقان الكبيران في العلاقة الأمريكية مع كل من الاتحاد السوفييتي والصين أكملهما اختراق آخر لا يقل أهمية في إقليم الشرق الأوسط، وبالتحديد في مجريات الصراع العربي- الإسرائيلي، انتهى بتوقيع اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979.

إن كيسنجر قضى ما يقرب 68 عاماً من عمره منغمساً في التنظير لعلم العلاقات الدولية، ومحركاً لعملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية، من خلال مؤسسته البحثية الخاصة التي حملت اسم «مؤسسة كيسنجر» والتي كان لها الفضل الكبير في إنتاج كبار القادة السياسيين الأمريكيين.

اللافت هنا، أن كيسنجر كان الأبرز دائماً في أوقات الأزمات المستعصية التي واجهت السياسة الخارجية الأمريكية، إما استجابة لدعوة من صناع القرار، وإما بمبادرة منه، على نحو ما حدث في مرحلة تحول النظام العالمي من نظام ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية تسيطر عليه الولايات المتحدة، فهو الذي تولى «التنظير» لأسس هذا التحول، وتحديد معالم إدارة السياسة الخارجية الأمريكية، وعلى نحو ما حدث في ظل وصول أزمة أوكرانيا إلى طريق مسدود بعد نجاح سيطرة روسيا على إقليم دونباس الأوكراني، وفي ظل مؤشرات كانت ترجح أن روسيا ستسيطر بسهولة على العاصمة الأوكرانية «كييف».

ففي المرحلة الفاصلة بين كون الولايات المتحدة واحدة من قوتين عظميين، والتحول إلى كونها أضحت قوة عظمى أحادية، هاجم هنري كيسنجر تعويل إدارة الرئيس (الأسبق)، بيل كلينتون، على الأمم المتحدة لاستصدار قرار باستعمال القوة للدفاع عن مصالح أمريكية.

وعندما وصلت الأزمة الأوكرانية إلى أن تحولت إلى «مأزق لواشنطن» قدم كيسنجر مبادرته لحل الأزمة في مداخلة تلفزيونية شهيرة مع المنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» (24/5/2022)، حيث طالب باعتماد الخط الفاصل بين روسيا وأوكرانيا إلى الوضع الجديد الذي وصلت إليه القوات الروسية في إقليم الدونباس، والأخذ بقاعدة أن تكون أوكرانيا «جسراً محايداً بين روسيا وأوروبا».

لكن كيسنجر رغم كل ما قدمه آثر ألا يغادر عالمنا قبل أن يقدم أهم مفاجآته العملية في مؤلفه الحديث «عصر الذكاء الاصطناعي»، الذي ولج من خلاله إلى عالم ما بعد الانقلاب «التكنو- اقتصادي» الذي ولدته الثورة الصناعية الرابعة، وتأثيراتها المحتملة في منظومات القيم والأخلاق، وتأثيراتها في الإنسان بالمجتمعات الصناعية الكبرى، وجعله «عابراً للجنس البشري»، أو «متفوقاً عليه».

هل أراد كيسنجر بهذا التجلي الأخير التحذير أم التبشير؟ لم يحدد كيسنجر موقفه كعادته في تفجير «البرك الفكرية الراكدة».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr3w6cse

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"