عبدالناصر ومانديلا.. ما لا يسقط بالتقادم

00:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

لا ينشأ دور بالمصادفة ولا تسقط قيمة بالتقادم. من لم يطل على التاريخ بوقائعه وحقائقه قد لا يلم بالأسباب العميقة الكامنة وراء ملاحقة جنوب إفريقيا بالذات دون طلب، أو تكليف من أحد، لجرائم الإبادة الجماعية، التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة.

إرث التاريخ ماثل في مشاهد محكمة العدل الدولية. لأزمان طويلة ارتبطت قضيتا جنوب إفريقيا وفلسطين كأنهما توأم سياسي، ما أن تطرح إحداهما تستدعى الأخرى.

ما زال إرث الفصل العنصري «الأبارتهيد» ماثلاً في ذاكرة أجيالها الجديدة ويحكم سياساتها.

رمزية جنوب إفريقيا أضفت على دورها في المحاكمة قيمة مضافة ملهمة باعتبارها الممثل التاريخي في النظر الإنساني المعاصر لانتفاضة الرجل الأسود ضد إرث العبودية والفصل العنصري. اكتسبت صدقية حديثها باسم كل الضحايا من تاريخها نفسه.

عندما تحررت مطلع تسعينات القرن الماضي، بعد أن رحل جمال عبدالناصر بسنوات طويلة، لم تنس دوره في الوصول إلى هذا اليوم، ولا تنكرت القارة الإفريقية كلها لإرثه التحرري فيما كان التنكر هنا فادحاً.

فور إطلاق سراح نيلسون مانديلا من سجنه الطويل، الذي امتد لسبعة وعشرين عاماً، زار دولاً إفريقية في مقدمتها مصر.

في زيارته القاهرية طلب من بروتوكول رئاسة الجمهورية أن يكون بجواره في العشاء على شرفه صديقه القديم محمد فايق، رجل عبدالناصر في إفريقيا، الذي تعاون معه لإزاحة الحكم العنصري قبل أن يدخل سجنه الطويل.

حسب رواية فايق -كما استمعت إليها- فإنه ذهب إلى منشية البكري حيث بيت عبدالناصر وبصحبته المناضل الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا للقاء الرئيس المصري. انتظرا سوياً أن ينتهي اجتماع بين عبدالناصر وتيتو، غير أن الاجتماع طال عما كان مقرراً، وجد مانديلا نفسه مضطراً للمغادرة حتى يلحق بطائرته على أن يعود مرة أخرى. وهو لقاء لم يحدث أبداً.

فيما بعد قال مانديلا إنه في سجنه الطويل كان يحاول أن «يشب» على قدميه حتى يرى «عبدالناصر» في القاهرة. كانت تلك إشارة تخيلية لحجم الرهان الإفريقي على الدور الذي كانت تلعبه مصر في ستينات القرن الماضي.

رحل عبدالناصر مبكراً في سبتمبر (1970) وأطال الله عمر مانديلا حتى ديسمبر (2013). عندما جاء للقاهرة زار ضريح عبدالناصر، ووصفه بأنه «زعيم زعماء إفريقيا».

بصياغة محمد فايق في كتابه المرجعي «عبدالناصر والثورة الإفريقية»: «إذا كنا نسلم بأن الزعماء الذين قادوا ثورة إفريقيا هم جمال عبدالناصر وكينياتا، ونكروما، وسيكوتوري، وبن بيللا ولومومبا وفيلكس مومي، وكاوندا وجوشوا مكومو، ونيريري، ومندلاني وإميل كابرال ومحمود حربي وغيرهم، فإننا نستطيع بكل الاطمئنان أن نقول إن جمال عبدالناصر قد لعب الدور الأخطر والأعظم بشهادة التاريخ وشهادة هؤلاء أنفسهم».

«لن نكون مبالغين إذا قلنا إن ثورة يوليو المصرية قد أحدثت من التغيير وتركت من التأثير في إفريقيا ما لا يقل بحال من الأحوال عن ذلك التغيير والتأثير الذي أحدثته وتركته الثورة الفرنسية في أوروبا».

قد تبدو مثل هذه الشهادة تحليقاً في الإنشاء السياسي، لكنها في الحقيقة تعكس بدرجة عالية من الدقة الدور الذي لعبته مصر، ولا يزال ماثلاً في ذاكرة القارة.

بتعبير محمد حسنين هيكل: «لا تراهن على التاريخ وحده أياً كان بريقه، فالمصالح تسبقه في العلاقات بين الدول».. «قد تساعد العلاقات القديمة في التمهيد لتبادل لغة المصالح بشيء من الود، لكن لا تنس أنها مجرد تمهيد قبل الدخول في صلب المصالح المتبادلة».

من أسوأ ما جرى بعد عبدالناصر أن ما استقر عميقاً في القارة السمراء أهدر فادحاً في السياسات.

رغم كل الانقلابات الاستراتيجية على مشروع عبدالناصر وضراوة الحملة عليه فإن المعاني الكبرى لا تسقط بالتقادم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/bdd49287

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"