في الحرب والسلام ومشاعيات التواصل

00:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.نسيم الخوري

أعتقد جازماً أنّ روابط تاريخية مُحكمة بين الغريزة والعقل أو بين الحرب والسلام في العلاقات البشرية والدوليّة تتراجع وتضمحل لتُضيء عقولنا بحثاً في مستقبل العلاقات البشرية والدولية. وأكاد أجزم أيضاً بأنّ المثلّث المعاصر قد اكتمل وصار مُقفلاً ومعقّداً بعدما شغلت مشاعيات الإعلام والتواصل الزاوية الثالثة. كيف يكون ذلك؟

لنعترف بأنّ تاريخ العلاقات الدولية المتأزّمة استسهلت الموت والتصفيات فوقعت الحروب، وما زالت تحمل هويّة واحدة هي القتل والتدمير والتشويه، وبها تزخر الكتب المدرسية والجامعية الخاضعة للتصفيات والتنقيحات، كما الموسوعات وتاريخ التوحّش الدولي المقيم منقّحاً تحت أصابع البشرية.

عندما تألف العيون والأذهان مآسي الحروب والعنف وصورها الحقيقية أو الخيالية، تضمر المشاعر في أثنائها بالمفاجأة إلى حدود الألفة، إلى أن تتبدّل القناعات والمواقف التي تصاحبها إقراراً بعدم جدواها ورفضها حيث يتعب الجميع، فتطلّ مطابع المنظمات الدولية بحثاً في التهدئة والسلام الذي لن يكون نهائيّاً لكنه يتخمّر مجدداً عبر تلاحق الأجيال.

تصبّ مخزونات التواريخ الدموية، إذاً، وكأنّها التحقيق العملي للهواجس الغرائزية العنفية التي يألفها المقاتلون عبر «ملّذات» تبادل النيران والتهديم والموت الذي يخيّم موتاً وبكاءً وتشويهاً وتدميراً على الجميع من ناحية، لكنّه يتّخذ لوناً آخر عندما تضع الحروب أوزارها عبر الاحتفالات بالنصر وحفلات توزيع الأوسمة ورفع النُصب التذكارية التي غالباً ما تترجم أو تُنقّط «المجد العسكري» عبر الشاشات والأفلام والكتب بصفتها شواهد على عَظَمَة الدول التي لا تساوي بتر ساقٍ لطفلٍ رضيع.

لنتّفق بأنّ ورش الاختلاط بين التلفزيون والكمبيوتر والاتصالات التقنية قد حلّقت بمشاهد العالم إلى جبال شاهقة من العلاقات البشرية المتوترة العصبية والمتحركة التي أسقطت الفروقات بين الدول والأرياف والمدن.

يبدو لي الناس، وبفعل تكنولوجيا المعلومات، وعلى الرغم من دوافعهم الفطرية للارتباط بالآخرين، أكثر طواعيّةً لطاقاتهم الاتّصالية الخاصة ولو أدّت إلى تجاوز مشاربهم التربوية وقناعاتهم وعاداتهم، أو تليينها حالما تبرز الأسباب القوية التي يصنعها الإعلام لتوليد القناعات المستوردة. هكذا تُراهم يصبحون أكثر قابليّةً لاختراق الموانع الصلبة في سلوكهم ومواقفهم بما يتجاوز مسائل الارتباطات الدموية، فتتشاوف فردانيات أجيال الشباب ولذائذ انخراطهم الممانع بحرية التفكير والتعبير، يحدوهم الإقبال الحار لتعلّم لغات وعادات والاحتكاك بثقافات جديدة وتقلّب الآراء في زمن المعلومة الشائعة المرتجلة في «الواتس أب» على سبيل المثال، والتي تسبق الفكر وتُشغل الرأي العام وتولّد الحدث «حتى لو تمّ نفيها أو حجب ناشرها لكنها تمكث» حقيقة مشتعلة في عيون البشرية.

أيمكننا القول إنّ ديمقراطية مونتسكيو باتت غمامةً أو سجينة مثلّث لا فصل فيه ولا تعاون ولا توازن ولا حقوق للإنسان عبر الأنظمة العالمية المتعطشة لشفط ثروات الغاز والبترول؟ جواب سريع من لبنان: نعم السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية سجينة مثلّث زعماء طوائف ومذاهب وأحزاب تخرقها السلطات الإعلامية المملوكة والمُدارة عبر مساعدي سلاطين الديمقراطيات المزيفة.

يمكنني وأنا أتصدّى لفهم أو هضم العنف والإرهاب المقيم أو العابر في الشرق الأوسط، المجازفة بصعوبة التخلّص من الحروب لأنّها ارتبطت بجرائم الإنسانية وفجاجة نتائجها وعدم نقد عبرها ودروسها، لكأنّها تسكن عقول البشر إلى حدود تسمح بالربط المتخيّل تاريخياً من عبسة قابيل الأسطورية في وجه أخيه هابيل مروراً بسقوط القنبلة الذريّة فوق هيروشيما (1945) والتهديد الجنوني بتكرارها اليوم. ها نحن نتذكّر فنجد أنفسنا في بلاد الشام التي فيها قُتل هابيل وفقاً للأسطورة أو مدونات اليعقوبي والمقدسي وابن جبير والبلاذري وابن بطوطة وفيها التدوينات أن قابيل وهابيل أقاما في سوريا. الأوّل في«قينيّة» والثاني في«مقرى»، وأنّ دمشق مدينة قديمة في التاريخ عالقة بأحداث مقلقة كما العُلّيْق.

يحفل التاريخ، بالمقابل، من هذه الزوايا الدموية الأليمة، بكتب المذكّرات والمسامحات والغفران التي يبرّر فيها أبناء السياسيين وقادة الدول وحتى الإعلاميات والإعلاميين كوارث الضحايا وأصحاب الإعاقات التي أورثتهم إيّاها الحروب والتي غالباً ما تقرأها الأجيال المتعاقبة بنهمٍ واحتقار وضياع أكيد بين السرد الموثوق والمحرّف أو الناقص والكاذب للوقائع والأحداث والصور والمدونات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5n73ndau

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"