إمبراطورية الاتصالات

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

من الأعمال الريادية التي في علوم الاقتصاد السياسي كتاب «الإمبراطورية والاتصالات» الذي لطالما فضّلت أن يأتي عنوانه: «إمبراطورية الاتصالات». لماذا؟ لأن قوة وسائل الإعلام وتأثيراتها العالمية المتحققة والمحلقة صعوداً، تجاوزت استراتيجيات الدول التي فقدت صفة الإمبراطوريات العظيمة حيال الحروب والكوارث، وآخرها مشاهد فلسطين، تنخرط البشرية كما المنظّمات والمؤسسات الدولية بحثاً عن النتائج والحلول والأفكار التي تتفاقم خطورتها فوق مواقد وسائل الإعلام الحارة، بل المشتعلة وفقاً لتوصيفها من مارشال ماكلوهان (1911-1980).

يُعتبرماكلوهان أستاذا جامعياً بارعاً، استشرف مستقبل تأثيرات وسائل الإعلام فوضعهما في قائمتين، أو مرتبتين: الباردة قبل الشاشة، والحارة وأسمّيها المشتعلة جداً عبر شاشات التلفزة، واستطاع جاهداً إثبات نظريته وتعميمها عاقداً القِران بين الحروب والإعلام، بما يجعل الطلاق بينهما مستعصياً. التقيته في عام 1976 في جامعة تورنتو بكندا، بعدما هاجرت من باريس إلى «نوفا سكوتيا»، باحثاً للالتحاق محاضراً بجامعة كندية. لم أتحمّل ثلوج كندا، فقفلت راجعاً نحو باريس ليرافقني ماكلوهان 30 سنة عبر التعليم الجامعي، والإشراف على أطروحات الدكتوراه في علوم الإعلام، متيقّناً معه بأن «الوسيلة هي الرسالة في «القرية الكونيّة» المقبلة التي ستلحق بشاشة التلفزيون تحديداً»، حيث لم تكن الشاشات تشظّت، وتتدفّق أجيالاً وألعاباً في عصر التواصل الراهن المتجاوز لقوانين الحرية والسماح.

تذكّر الكتّاب ماكلوهان لدى متابعة سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 إذ كان بتقديري، المحطة العالمية الأبلغ في زواج الحرب، والصورة في الإعلام باعتباره كان النتوء العالمي الأخير الذي كان يجب إزالته، لكونه الشاهد الضخم الكثيف والقاسي إنسانياً، على بلادة الانقسام الحضاري، ومآسي الحربين العالميتين.

كان يسدّ هذا الجدار القدرة على التفكير في العالم كمساحة واحدة، أو سوق عالمي، لأنه طبع العقل العالمي بالوقوع الدائم في تبنّي الخيار بين الشرق والغرب، أي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وكان التلفزيون الغربي سبّاقاً برّاقاً بصوره الزاهية، وبرامجه الغربيّة المتنوّعة، كأنه السجادة التي مشت فوقها البشرية، وساهمت في سقوط الجدار، أو هلّلت لسقوطه، على الأقل، بعدما عبر من فوقها الأمريكي من دون دماء، ليلهب مشاعر الروس وشعوب المنظومة الاشتراكية، وطموحاتهم، فيسمّر انتباهاتهم على فضائل تدفقات الحريات الوفيرة، وصور الرغد، والديمقراطية للعيش، أو الإقامة في الغرب.

يمكننا في هذا المجال، أن نستعيد معاً، الوجه المظلم لما سمّي حدث القرن عند سقوط البرجين، خصوصاً عندما نقرأ نصوصاً، وكتباً، أو خطباً قابلة للمجادلة الفكرية، باعتبار العالم قد أصبح أكثر أماناً ومكاناً أفضل للعيش بعد 9/11، وبأن كل تفجّر للحرية كان يحفّز تفجّراً آخر، ولتلك العملية بحدّ ذاتها تأثير تسطيحي في المجتمعات، وعبرها في العالم، لأنها توقظ وتُحرك وتُقوي الموجودين في الأسفل، وتُضعف بالمقابل الموجودين في المناصب الأعلى، فتُصبح المشاهد، الساخنة أو البارد،ة التي أمعن بشرحها ماكلوهان، ملاعب لأدوار تأثيرية هائلة تحرّك مشاعر البشرية، خصوصاً مع ظهور معايير اقتصادية وحياتية هي على ارتباط، يومي وحياتي ومصيري، بتكنولوجيات إعلامية فائقة. هذه واقعة عالمية خطفت الأبصار، وانتباهات المنظمات والمؤسسات العالمية، بحيث تمّت متابعتها، والانشغال بها، وتبنيّها بسرعة أكبر بكثير بعد انهيار الجدار، وسقوطه تحت مطارق حرية الشعوب.

قد يكون سقوط البرجين عبّد، بالفعل، الطرق الوعرة أمام توسيع الاتحاد الأوروبي الذي قفز إلى 28 بلداً، بعدما انضمت إليه كرواتيا في ال2013، بعدما كان 15 بلداً قبل سقوط الاتحاد السوفييتي الذي وجد عظمته مدفوعة نحو الانهيار السريع، وإعلان إفلاسه وتحوّلات مجتمعاته.

بالاختصار، كان لثورة الصور والمعلومات الدور البارز في إجهاض الأممية الشيوعية كفكرة، إذ لم يبق آنذاك سوى كونيّة واحدة في الأفق أمريكية تسيطر على الأسواق العالمية للاتصالات، بما ولّد ثقافة جماهيرية لها سلطات تأهّب العالم لتقليدها، والتطلع الدائم نحوها، وراح يُنافسها ليدخل قعر دارها، كما نجحت الصين وحلفاؤها حتى الآن.

من المبكر، التكهّن بحجم المتغيّرات وتداعياتها التي تهزّ الاتحاد الأوروبي، والتي فاجأت أوروبا بالضبط عندما لم تتمكن من استيعاب تصويت البريطانيين لمصلحة خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، بعد استفتاء 23/6/2016 (بريكست)، بما شكّل صدمة هائلة للاقتصاد الدولي، وتهديداً كبيراً لمستقبل الاتحاد الأوروبي الذي سيعرف الاهتزاز الأقوى بعد اندماج ناجح دام لعقود.

كان أول تحقيق لملامح الأسواق الشاملة العالمية عبر الشركات الرأسمالية الكبرى أنّها شرّعت فيضانها بما يتجاوز حدود الدول، حيث غابت الإمبراطوريات تحقيقاً للإمبراطورية الكونية، يديرها العلماء والتقنيون عبر الأسواق الهائلة، والخدمات اللا متناهية التي جعلت العالم مركزاً واحداً، للخيرات والشرور والحروب، عبر الشاشات المتنوعة، القائلة بحريات كلّ الشعوب في العالم بحقوق التعبير، لكأنّ قاطني الكرة الأرضية يملكونها سوقاً لا حدود له، لحريات التعبير، والتصوير، والنقد، والتغيير، والتثوير.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/ysw25ya6

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"