د. مصطفى الفقي
ما أكثر ما شهد التاريخ الإنساني من جرائم مروعة تجسدت جميعها تحت عنوان إبادة الجنس البشري، ونحن نسمع عن بعضها في مناطق العالم المختلفة، ولكن أكثرها تأثيراً، هي تلك المرتبطة بمنطقة الشرق الأوسط، بدءاً من مذبحة الأرمن عام 1915، والتي تتواتر حولها الروايات لما فيها من تهجير قسري، وملاحقة بشرية.
وقد عرفت شخصياً، منذ سنوات بعيدة، حلّاقاً أرمني الأصل وفد إلى مصر مع أسرته هرباً من المذابح ضد الأرمن، وكان يحكي دائماً أن جده كان هو الحلّاق الخصوصي للسلطان العثماني، وأن السلطان استدعاه، ذات مساء، وطلب منه الرحيل مع أسرته في أقرب وقت للنجاة بحياتهم من موت محقق. وقد ترددت قصص كثيرة في هذا السياق، ولكنها لا تخلو، أحياناً، من مبالغة درامية في تصوير ما جرى، حتى قيل إن الأتراك كانوا يضربون رؤوس العلماء المتميزين من الأرمن بكتلة حجر حتى تتهشم تلك الرؤوس الأرمنية الذكية.
ولا بدّ أن أعترف هنا، بأن التاريخ البشري حافل بمبالغات معروفة وإخراج درامي لا ننكر وجوده، وقد انتشر الأرمن بعد ذلك في دول المشرق العربي ومصر، حتى أصبح منهم وزراء ونواب برلمان في لبنان، وغيرها، من ذوي الأصول الأرمنية، في مجالات السياسة والأدب والفن والموسيقى والسينما والمسرح.
ثم أطلت الحرب العالمية الثانية، وتعقبت النازية العنصرية اليهود في ما يعرف ب(الهولوكوست)، ويقع كثير من المناصرين للقضية الفلسطينية في خطأ إنكار وجوده، وتلك سقطة لا مبرر لها، فنحن نعترف بأن ذلك قد حدث، وأن أفران الغاز النازية قد حصدت أرواح أعداداً من يهود أوروبا، خصوصاً الألمان، حيث كان أدولف هتلر، مقتنعاً بأن اليهود هم سبب هزيمة بلاده في الحرب العالمية الأولى، ولكن اعتراضنا يأتي من رفضنا أن يكون البديل للجريمة النازية ضد اليهود، هو جريمة أخرى ضد أرض فلسطين، في ظل سياسة عنصرية توسعية عدوانية تعيد منطق «الهولوكوست» الذي جرى ضدها، وتحيله إلى سياسة ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني، على مدار ثلاثة أرباع قرن مضت، فيها دماء، وأشلاء، وقتل الأبرياء، تنفيساً عن جريمة جرت ضدهم خلال سنوات الحرب الع1المية الثانية.
وكان يمكن أن تتحول هذه الطاقة الناجمة عن جرائم النازية إلى طاقة إنسانية عكسية تدعو دولة إسرائيل إلى تجنب جرائمها الوحشية، حتى لا يجرع السم بشر يدافعون عن أرضهم ووطنهم. بل كان يجب أن يؤدي ذلك إلى تعاطف إنساني مع الحقوق الفلسطينية، والسعي الحثيث نحو العيش المشترك في ظل روح التسامح وأجواء السلم، والتوقف عن تكرار الجرائم ضد الإنسانية.
وقد عرفت البشرية أنماطاً من حروب الإبادة، ونحن نتذكر في هذه المنطقة من العالم، مذابح دير ياسين، وبحر البقر، وصبرا وشاتيلا، وغيرها من عشرات الجرائم المروعة التي ارتكبتها إسرائيل بدمٍ بارد، وجعلتها دائماً نمطاً متكرراً في تعاملها مع العرب، خصوصاً مع الشعب الفلسطيني، ثم نأتي للحرب الأخيرة على غزة، والتي فاقت فيها عدوانية إسرائيل كل الحدود، وأصبحت نموذجاً رهيباً لجريمة الإبادة الجماعية، والتهجير القسري، وقتل أكبر عدد من الأطفال في تاريخ الصراع الدامي حول القضية الفلسطينية.
إنني أكتب هذه السطور حول الجرائم البشعة التي اقترفتها الدولة العبرية منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حتى ظهر رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في صورة الجلاد المتعطش إلى الدماء، وحوله جوقة من رموز اليمين الإسرائيلي المتطرف ليزيّنوا له فعلته، ويمضوا معه على طريق لن يصل في النهاية إلا إلى حائط مسدود قد يكتب نهاية الحلم الصهيوني برمته.
وإذا كانت بعض الدول آثرت الاعتذار عن جرائمها، ومحاولة التكفير عن خطاياها، انطلاقاً من نظرية التطهر البشري والتكفير الإنساني عن الخطايا، خصوصاً أن سفك الدماء هو قمة الجرائم الموجهة ضد البشرية عبر تاريخها الطويل، إلا أننا نظن أن دولة، مثل إسرائيل، قد تنكرت دائماً للشرعية الدولية، واستخفت بأحكام القضاء الدولي، لن تفيق ذات يوم لتقول إنني أجرمت في حق غيري من أصحاب الأرض وشعوب المنطقة، ولكن ذلك بالطبع غريب على الأسلوب الإسرائيلي في التعامل مع الغير منذ عقود طويلة.
إنني أسجل هنا وقد أصابنا جميعاً اكتئاب حاد من مناظر الأشلاء والدماء، والأطفال اليتامى، والأمهات الثكالى، والدموع الحزينة في عيون الأطفال الذين ترسخت في ذاكرتهم صور الجرائم وعمليات الترحيل الحزين، والخروج البائس من بيوتهم المهدمة، وأرضهم المحتلة، ليدفعوا ثمن البغي والعدوان والظلم والطغيان، وهنا نتساءل هل يمكن النسيان؟ وهل نستطيع ذات يوم الغفران؟