السياسات والإجراءات

01:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي
مع الأيام الأولي للعام الميلادي الجديد، يحسُن بنا أن نراجع بعض التعريفات التي نستخدمها بلا وعي وبلا تركيز أحياناً، ومن أمثلتها تلك العلاقة بين ما هو مرحلي، وما هو دائم، بين ما هو تكتيكي، وما هو استراتيجي، إذ نلاحظ غالباً أن العقل الشرقي يستغرق في الإجراءات، وقد تغيب عنه السياسات، كما تذوب المؤسسة أحياناً في شخصية الفرد الذي يقودها. ولكي أكون واضحاً فإنني أقرر ما لاحظته في تكوين العقل العربي عندما يكون فاعلاً، أو رد فعل، فهو في الحالين يلجأ إلى إجراء جديد، ولا يغوص أعمق من ذلك في سياسة مختلفة، ومرجع ذلك يعود إلي اهتمامه بالشكل من دون المضمون، والتعلق بالتفاصيل من دون الإمساك بتلابيب الظاهرة، والخروج منها بسياسة عامة تسمح بعد ذلك باستدعاء التفاصيل المطلوبة، وليس ذلك جديداً على العقل العربي المعني غالباً بالنظرة الصغرى من دون الرؤية الكبرى أي بال(Micro) قبل (Macro) كما أنه يستغرق في لغة المونولوج متحاشياً أسلوب الديالوج، لأنه لا يستطيع التسامح مع الرأي الآخر، وقد تسيطر عليه، أحياناً، فلسفة القطيع، فيجري وراء إجراءات يتخذها من دون التفكير في سياسات معقولة، والسبب في ذلك يعود إلى عدد من العوامل، أهمها أسلوب التربية، ثم نوعية التعليم، ثم المناخ العام السائد، ثم البيئة الاجتماعية الحاضنة، وهذه العوامل الأربعة هي المحددات المعتادة عند تقويم فكر معين، أو التفتيش في رؤية بذاتها، فأسلوب التربية التي تبدأ من الأسرة وتتأثر بدرجة تماسكها، هي المتغير المستقل الذي تتبعه متغيرات أخرى تسهم في تكوين الشخصية.

إن المناخ الذي يسود أركان المجتمع في مرحلة معينة يكون مؤثراً في مكونات العقل الجمعي والإرادة الطوعية. فمناخ العصر الناصري اختلف تماماً عن المناخ الذي كان سائداً في العصر الملكي، بحيث سادت ثقافة لم تكن مطروقة من قبل، كما يسود نظام جديد ينعكس على الفرد وعلاقته بالمؤسسة. حتى أن المفكرين الكبار اختلفت أساليبهم بعد ثورة يوليو، عما قبلها، وأصبحنا أمام مشاهد لم تكن معتادة من قبل، خصوصاً ما يتصل بالتوجيه الإعلامي، والخطاب السياسي، وانصراف الناس عن مفهوم السياسات العريضة إلى التفاصيل الصغيرة والإجراءات الجديدة.

قد يقول قائل: إن مسارات الصعود الطبقي قد غيرت ذلك المفهوم السائد عن الارتباط بين المستوى الاجتماعي والعمق الفكري، وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكن تبقى في النهاية ظلال لا تزول كأثر للواقع الاجتماعي الذي خرج منه صاحب الشخصية، وهنا تلعب نوعية التعليم، مرة أخرى، دوراً مهما في هذا الشأن..

إنني أكتب هذه السطور لكي ألقي الضوء على العلاقة بين الفرد والمؤسسة، بين المواطن والدولة، بين من يخضعون للإجراءات ومن يضعون السياسات، وأدعو بحماس شديد إلى التفكير الشامل الصادر عن الرؤية المتكاملة، بعيداً عن النظرة الجزئية التي لا تُلمّ بالأطراف المختلفة للقضية الواحدة، وأطالب بإعادة منهجة العقل العربي من خلال العوامل التي سُقناها لكي يصبح معنياً بالسياسات العامة قبل المضي وراء الإجراءات الفرعية.

إنها سطور تطرق أبواب المستقبل بعد أن اكتشفنا أن الاختلاف بين العقل العربي والعقل الغربي هو عامل مؤثر في طبيعة الوجود المشترك على أرضية وطنية واحدة، بين كل أصحاب الرؤى والأفكار والمواقف، إذ إن توظيف العقل في خدمة الإنسان لا يتحقق إلا بالانتقال من الدائرة الأوسع إلى الأضيق، وليس العكس، فالسياسات هي قاطرة الحياة، بينما الإجراءات هي العربات التي تجرها تلك القاطرة المشتركة، إنها قضية العلاقة بين ما هو كلي، وما هو تفصيلي، من الناحية الموضوعية، وبين ما هو مرحلي وما هو دائم من الناحية الزمنية، وبين ما هو تكتيكي مؤقت واستراتيجي دائم، من منظور الرؤية الشاملة التي تحدد المسار وتستشرف المستقبل، وترى الضوء في آخر النفق مهما كانت المصاعب والتحديات، بل والعقبات والمشكلات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/2ydc3vk5

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"