بحثاً عن الزيت في عقول القادة

00:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. نسيم الخوري

طال، وسيطول السؤال التاريخي الدولي، وستتجاوز حسابات الأكلاف والخسائر حسابات النصر والعدالة، وإخفاق العقل الدولي في حلّ قضية الحروب التاريخية، والمتجددة. لقد سهّلت التكنولوجيا والبرامج التطويرية الدائمة لعالم الأسلحة، وستبقى تُعبّد الدول الطرق للحروب، مع أنّ القنبلة النووية قد كبحت جموحها فارضة معادلة التوازن بين القوى دون اللجوء الى النووي يتردّد في الأذهان وفوق الألسنة.

لم تختف الرغبة في التدمير، بل لربّما قيّدتها الإرادة الدولية منذ هيروشيما. وقد يكون هذا التقييد الصارم، السبب النفسي الدولي اللاواعي، الذي ضاعف، ويضاعف من قوة الجيوش والصراعات الدولية والتفنن في صناعة الأسلحة التدميرية والجرثومية ومخاطر استعمالها بلذّة سادية تدفع بالعنف أحياناً إلى سحق معاني الإنسانية.

ماذا يحصل اليوم؟

العالم كلّه يخاف من الإرهاب ويتجاوزه خوفه عند حضور فكرة النووي، أو حتّى فُتاته، لربّما بات بحوزة دول، أو فصائل لا تعنيها القوانين والأنظمة الدولية. يضاعف الخوف عندما تُقرع عواصم العالم بتفجيرات وردود أفعال قوية ومتلاحقة وغير منتظرة. نعم العالم في حالة خوف يتجدّد في ميادينه، ومتابعة تحديات دوله عبر الحروب، وبوتائر أقوى بكثير من التواريخ السابقة التي تجاوزت أجيالاً بلغت شيخوخة أجيالٍ وُلدت مع أسطورة فلسطين منذ ال1948. كان يمكننا سماع، أو تسمية، أو توصيف تلك الحروب ب«المألوفة» اصطلاحاً، عبر هذا التاريخ الطويل نحو 16 سبتمبر/ أيلول 1947 الذي يسحبني أمام انعقاد منظمة الأمم المتّحدة بدورتها العادية الثانية في نيويورك، ليُنتخب جدّنا فارس الخوري رئيساً للّجنة القانونية التي نصّت في عهده، وبإصراره على أن يكون علم الأمم المتّحدة أزرق اللون، وملفوفاً بغصنين من الزيتون.

الأزرق صفاء السماء لكن، لماذا يُزنّر غصني الزيتون المتصافحين مجسمات الأمم المتّحدة، وأعلامها المنتشرة في العالم؟

لأنّ فارس الخوري لطالما كان يردد أنّ الحضارات البشرية وُلدت من رحم الحضارة الزراعية، حيث الإصرار على الأثلام المستقيمة، والسكّة المغروزة في التراب ليُرمى البذار نحو الخير والحياة. أمامي أكداس من أوراقه، ومذكراته، وأشعاره، وصوره، وخطبه، رجل من عائلة الفلاحين في قرية الكفير الجنوبية اللبنانية المدموغة حقولها بغابات الزيتون المعمّر، رمزاً للسلام والدواء الذي يُذيب الصدأ العالق بين المعادن الصدئة، كما بين الأشقاء والجيران، فكيف به إن كان غذاء للعقول الدولية وسياسات ممثّليها تحقيقاً للدبلوماسية النظيفة والإقرار بحقوق الشعوب والليونة، كأساسٍ في حفظ الحقوق والعدالة وتنظيف العلاقات الدولية من عقدها التاريخية المتراكمة.

بصرف النظر عمّا أورثته وتُورثه حرب السابع من أكتوبر 2023 المنصرم، من هموم العالم وقلقه، كانت هموم أهل الكفير وجنوبي لبنان مسكونة نزوحاً عن الجنوب، واستحالة قطاف زيتونهم لأجل لقمة الغد.

البحث عن الزيت في عقول قادة الدول هو السؤال الذي لم تفلح في الإجابة عنه تواريخ الدول والشعوب. أذكّر بأنّ أعضاء لجنة البحث عن الحقيقة الخاصة بفلسطين اتّفقوا مثلاً في عام 1947 على منحها الاستقلال، واختلفوا بشأن طبيعة هذا الاستقلال، إذ اقترح مندوبو كندا وتشيكوسلوفاكيا وغواتيمالا وهولندا والبيرو والسويد والأورغواي مشروعاً لدولتين، عربية ويهودية، يربطهما اتّحاد اقتصادي، تُوضع القدس وبيت لحم فيه تحت الوصاية الدولية، وإدارة الأمم المتّحدة، وتُدير إنجلترا شؤون فلسطين أثناء فترة الانتقال لعامين، بينما اقترح مندوبو الهند وإيران ويوغوسلافيا مشروع تشكيل دولة اتّحادية تضمّ العرب واليهود خلال سنواتٍ ثلاث.

وعليه، عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية اجتماعاً لها في صوفر/ لبنان بين 16 و19 سبتمبر/ أيلول، أصدرت فيه على «إنّ مقترحات لجنة التحقيق المنبثقة عن الأمم المتحدة تنطوي على هدر واضح لحقوق عرب فلسطين في الاستقلال، وتنطوي على خرق لجميع الوعود التي قُطعت للعرب وللمبادئ التي تقوم عليها منظمة الأمم المتحدة. وترى في تنفيذ هذه المقترحات خطراً يهدّد الأمن والسلامة العربية... ولا يكفل فلسطين كدولة عربية.»

وفي 22 سبتمبر/ أيلول 1947 اعتلى فارس الخوري منبر المنظمة الدولية التي شارك في تأسيسها، مذكّراً بعظمة السلام العالمي، وبفظائع الحروب التي ما زالت ماثلة في الأذهان، وجهود الأمم لتحقيق السلم عن طريق هذه المنظمة، مشيراً إلى الخواف الجاثم في تنافس الدول الكبرى. لقد تغيّر العالم كلّه، ولكنه لم يتغيّر بعد حيال فلسطين، محذّراً منذ 70 سنة من حرب عالمية ثالثة تقضي على الحضارة البشرية لأنها ستكون ذرّية.

بعد شهرين أي في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 قرّرت هيئة الأمم المتحدة مشروع التقسيم برفض واستنكاف 24 دولة تمثل ثلثي سكان العالم، ومعظمهم ينتسبون إلى دولٍ نائية ليس لها اتّصالٍ لا بفلسطين، ولا بشؤون آسيا والشرق الأدنى.

نُقل قرار التقسيم إلى مجلس الأمن وأستعيد ما قاله فارس الخوري إذ كان رئيساً له عامي 1947-1948 خاتماً خطبته بما أعنونه تفكيراً بالمستقبل:

«القضية ليست عربية يهودية، ولا قضية الشرق والغرب، بل هي قضية صراع سيطول جدّاً بين العواطف العمياء وبين العقل، وبين الحقوق الطبيعية والحقوق المكتسبة، وبين مناهج القانون الدولي وسياسات القوة والمواقف لدى ممثلي دول العالم، لربّما ينفع الزيت في تصويب عقولهم ومواقفهم كي لا يتعثر المستقبل».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/mvrzafws

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"