دروس التضخم في التاريخ

21:35 مساء
قراءة 3 دقائق

د. علي توفيق الصادق*

في عقد السبعينات من القرن العشرين أدى الصراع في الشرق الأوسط إلى ارتفاع أسعار النفط، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وبالتالي ارتفاع التضخم. الأمر الذي أدى إلى قيام البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم ببذل جهود للسيطرة على التضخم. وبعد فترة، استقرت أسعار النفط وبدأ التضخم في التراجع. وقد ظن العديد من البلدان أنها استعادت استقرار الأسعار وخففت سياسة إنعاش اقتصاداتها المتضررة من الركود فقط لتشهد عودة التضخم. السؤال الذي سأله السيدان أنيل أري و ليف راتنوفسكي ( Anil Ari و Lev Ratnovski ) من صندوق النقد الدولي هو: هل يمكن للتاريخ أن يتكرر؟ الجواب في دراستهما ل 100 صدمة تضخمية منذ سبعينات القرن العشرين توفر مؤشرات مهمة يهتدي بها صناع السياسات في حاضرنا.

بلغ التضخم العالمي مستويات تاريخية في عام 2022 بعد أن أثارت العملية الروسية في أوكرانيا صدمة في شروط التجارة أشبه بتلك التي حدثت في السبعينات. وقد أدى انقطاع إمدادات النفط والغاز الروسية إلى زيادة مشاكل سلسلة التوريد بسبب فيروس «كورونا»، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار. وفي الاقتصادات المتقدمة، ارتفعت الأسعار بأسرع وتيرة منذ عام 1984. وفي الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، كانت زيادة الأسعار هي الأكبر منذ التسعينات. وقد أدى الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة إلى تراجع التضخم حيث انخفض معدل التضخم في الولايات المتحدة وفي معظم أنحاء أوروبا إلى النصف من نحو 10 في المئة في عام 2023 إلى أقل من 5 في المئة في الوقت الراهن. وتؤكد دراسة الصندوق أنه لا يزال من المبكر أن يحتفل صناع السياسات بالانتصار على التضخم.

إن دراسة 100 صدمة تضخم منذ السبعينات تقدّم سببين للحذر: السبب الأول هو ما يستخلص من دراسة تاريخ التضخم بأنه مستمر ويستغرق الأمر سنوات عديدة حتى يتم السيطرة عليه عن طريق خفضه إلى المعدل الذي كان سائداً قبل الصدمة الأولى. وحسب الدراسة، فشلت 40 في المئة من البلدان التي شملتها الدراسة في حل صدمات التضخم حتى بعد مرور خمس سنوات. واستغرق الأمر 60 في المئة المتبقية في المتوسط ثلاث سنوات لإعادة التضخم إلى معدلات ما قبل الصدمة. وثانياً، احتفلت البلدان تاريخياً بالانتصار على التضخم، وخففت السياسات قبل الأوان في استجابة للانخفاض الأولي في ضغوط الأسعار. وكان هذا خطأ؛ لأن التضخم سرعان ما عاد. وكانت الدنمارك وفرنسا واليونان والولايات المتحدة من بين ما يقرب من 30 دولة في «عينة» الدراسة التي قامت بتخفيف السياسة قبل الأوان بعد صدمة أسعار النفط عام 1973. وفي الواقع، فإن جميع البلدان التي شملتها التحليلات (90 في المئة) والتي فشلت في حل مشكلة التضخم شهدت تباطؤاً حاداً في نمو الأسعار في السنوات القليلة الأولى بعد الصدمة الأولية، ثم تسارعت مرة أخرى أو ظلت عالقة بوتيرة أسرع. وقد حذر محافظو البنوك المركزية من أن معركة التضخم لم تنتهِ بعد، حتى مع إظهار القراءات الأخيرة اعتدالاً مرحباً به في ضغوط الأسعار.

كيف ينبغي لصناع السياسات أن يستجيبوا للتضخم المستمر؟ يقدم التاريخ بعض الدروس. فالبلدان التي شملتها الدراسة والتي نجحت في حل مشكلة التضخم قامت بتشديد سياسات الاقتصاد الكلي بشكل أكبر استجابة لصدمة التضخم، والأهم من ذلك، أنها حافظت على موقف سياسي متشدد بشكل ثابت على مدى عدة سنوات. ومن الأمثلة هنا إيطاليا واليابان، اللتان تبنّتا سياسات أكثر صرامة لفترة أطول بعد صدمة أسعار النفط في عام 1973. وعلى النقيض من ذلك، فإن البلدان التي لم تنجح في حل مشكلة التضخم كانت لديها مواقف سياسية أكثر مرونة وكانت أكثر عرضة للتغيير بين دورة التشديد والتخفيف. ومصداقية السياسات مهمة أيضاً في محاربة التضخم. فالبلدان التي كانت توقعات التضخم فيها أكثر رسوخاً، أو حيث حققت البنوك المركزية نجاحاً أكبر في الحفاظ على التضخم المنخفض والمستقر في الماضي، كانت أكثر إصراراً على التغلب على التضخم.

وقد يجد محافظو البنوك المركزية في العديد من البلدان أنه من الأسهل التغلب على التضخم مقارنة بالماضي، بسبب المصداقية السياسية التي اكتسبوها على مدى عدة عقود من الإدارة الناجحة للاقتصاد الكلي. ومع تطبيق السياسات الصحيحة، تستطيع البلدان حل الضغوط التضخمية في وقت أقرب مما كانت عليه في الماضي.

* مستشار اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/mr4ck6p4

عن الكاتب

خبير مالي وإقتصادي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"