الملل السياسي

00:33 صباحا
قراءة 4 دقائق

أحمد مصطفى

غالباً ما كانت توصف بريطانيا بأنها نموذج الديمقراطية الغربية الراسخة، خاصة وأن «العالم الجديد» –الغرب المستحدث خارج أوروبا في أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلاندا– نقل عنها كثيراً من أصول الحكم ونظمه. لكن في العقود التي تلت نهاية الحرب الباردة وانتفاء التمايز بين شرق شمولي وغرب ديمقراطي أصيبت السياسة كلها في العالم بقدر من «الميوعة» يراها البعض تراجعاً، ويراها آخرون مرحلة انتقالية نحو «نظام جديد».

من أهم ملامح هذه المرحلة أنه لم تعد هناك فوارق واضحة بين اليمين واليسار كما كان الحال قبل ثمانينات القرن الماضي. في البداية تركزت السياسة في «الوسط» (يمين الوسط ويسار الوسط) حتى اكتظ ليتشظى تشدداً وتطرفاً على هامش اليمين وفوضى على هامش اليسار. صحيح أن بريطانيا ظلت إلى حد ما في وضع أفضل من بقية أوروبا في هذا السياق، لكن بالتأكيد أصابها ما أصاب بقية الغرب من تطورات وصلت إلى حد الملل السياسي.

من دلالات ما حدث الأسبوع الماضي من فوز حزب العمال المعارض بدائرتين جرت فيهما انتخابات تكميلية على حساب حزب المحافظين الحاكم أن ذلك مؤشر قوي على نتيجة الانتخابات العامة في بريطانيا المتوقع أن تجرى خلال أشهر، إذ تظهر استطلاعات الرأي منذ فترة تقدم حزب العمال على حزب المحافظين بالفعل.

لكن من المهم أيضاً الإشارة إلى أن الناخبين في الدائرتين لم يصوتوا لحزب العمال لأنه «يسار» عكس المحافظين الذين يعتبرون «يمين». الأرجح أن التصويت جاء في أغلبه احتجاجاً على الحزب الحاكم الذي لم تؤد سياساته في السنوات الأخيرة إلا إلى تدهور مستوى معيشة الأسر البريطانية. بل إن مفاجأة انتخابات الدائرتين أن قدراً كبيراً من تلك الأصوات الاحتجاجية ذهب إلى حزب أكثر «يمينية» يعتبر انشقاقاً عن المحافظين هو «حزب الإصلاح».

يصوت الناس في بريطانيا، وفي أغلب دول الغرب عامة، في الانتخابات العامة والمحلية لا على أساس شعارات السياسة ولا ألوان طيفها وإنما على أساس مصالحهم الاقتصادية وتحديداً ما يمس حياتهم اليومية. ولم يكن يوم الانتخابات التكميلية في الدائرتين جيداً للحزب الحاكم، إذ كان اليوم الذي صدرت فيه أرقام الناتج المحلي الإجمالي التي تُظهر انكماش الاقتصاد لربعين متتاليين، وبالتالي اعتبار بريطانيا في ركود اقتصادي.

ليس هذا فحسب، بل إن وزير الخزانة الذي يُعِدّ بيان ميزانية الربيع سيعلن الشهر القادم عن تخفيضات ضريبية، ورغم أن ذلك أمر جيد للناس، إذ لا يدفعون مزيداً من الضرائب، إلا أنه لن يستطيع تمويل تلك التخفيضات بالاقتراض الحكومي. وبالتالي سيكون عليه خفض الإنفاق العام بشدة، وهو ما يضر بخدمات أساسية يعتمد عليها الناس مثل التعليم والصحة وغيرهما.

مثلما أصاب الناس الملل من السياسة فهم أيضاً لا يعبؤون بخطط الاقتصاد و«الاستراتيجيات» المعلنة، إنما يهمهم ما يؤثر في جيوبهم وقدرتهم على توفير الضروريات لأسرهم. وهذا ما يشعرون أنه في تراجع مستمر منذ فترة، ولا تبدو له نهاية في الأفق، لذا يأتي تصويتهم من باب «التغيير لكسر الملل»، فربما يأتي القادم الجديد بما هو أفضل.

صحيح أنه تقليدي، وفي كل الدنيا هناك كتلة من الناخبين لا تصوت لمن في السلطة منذ فترة، لأنها تراه استنفد كل ما في جعبته لتحسين أحوال معيشتهم. ثم إن مَن في السلطة تكون الأضواء مسلطة عليه وتبدو عيوبه أكثر وضوحاً ممن هم خارجها في المعارضة. وهكذا يكون عقاب الناخبين له بالتصويت الاحتجاجي. وقد نال حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا حظاً وفيراً من ذلك الانكشاف، إذ غيّر قيادته ورئاسة الحكومة أربع مرات في أربع سنوات، من تيريزا ماي، إلى بوريس جونسون، إلى ليز تراس، إلى الحالي ريشي سوناك. وبلغ الملل لدى البريطانيين مداه من حجم الفضائح والتجاوزات في قمة الحزب والحكومة. ومع أن حزب العمال لم يكن أفضل حالاً بكثير، إلا أن كونه ليس في السلطة جعل مشاكله أقل بروزاً. فالحزب أيضاً غيّر قيادته أكثر من مرة، من إد مليباند، إلى جيريمي كوربين، إلى الحالي كيير ستارمر. ويعاني الحزب انقسامات لا تقل عن خلافات حزب المحافظين الداخلية، فما زال أنصار توني بلير يمثلون تياراً مهماً في الحزب يناوئ تيار النقابات أو ما يمكن اعتباره اليسار التقليدي في الحزب. ثم هناك تيار البراغماتية السياسية الذي يمثله ستارمر، وهو لا يختلف كثيراً عن سوناك في كونه نموذجاً لما يُعتبر «الملل السياسي».

مع ذلك إذا أجريت الانتخابات العامة اليوم في بريطانيا، وليس في مايو/ أيار أو سبتمبر/ أيلول القادم كما هو متوقع، فسيفوز حزب العمال وسيخسر حزب المحافظين على الأرجح. لكنّ أصواتاً كثيرة أيضاً من تلك الاحتجاجية على المحافظين ستذهب إلى حزب اليمين المتطرف وربما أيضاً إلى حزب الديمقراطيين الأحرار الذي غالباً ما يأتي ثالثاً في نتيجة الانتخابات العامة.

ليس معنى ذلك أن الناس تثق بقدرة حزب العمال على حل مشاكل الاقتصاد البريطاني أو تحسين أحوال المعيشة، لكنه سيكون انتخاباً من باب التغيير كسراً للملل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/29xmwv5z

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"