البحث عن أيديولوجية عربية

00:38 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. علي محمد فخرو

في مقال سابق بينّا خصائص ومخاطر الوضع الحالي السائد لعملية التثقيف السياسي للأجيال الشابة، سواء في كثير من البلدان المتقدمة أو في بلدان العالم الثالث، ومن بينها بلدان الوطن العربي.

ولقد ألمحنا إلى أن تلك الإشكالية تبدأ بشتى المحاولات، لأسباب في أغلبها غير مقنعة، للتهجم على مكون تاريخي رئيسي من مكونات ذلك التثقيف، ونعني به المكوّن الأيديولوجي، بمسمّياته المختلفة.

من أجل الإقناع بعدم الالتفات لتلك الهجمة، وتوضيح الصورة لشابات وشباب الوطن العربي، سنبدأ بتوضيح مكانة الأيديولوجية: تعريفاً وتكويناً وأهدافاً، والإشارة إلى بعض صورها وممارساتها الخاطئة من جهة،والنتائج المجتمعية الكارثية في حالة غيابها بشكل صحيح في معركة إخراج كل أجزاء الوطن العربي من محنه الحالية من جهة أخرى.

لعل أفضل تعريف للأيديولوجية السياسية، هي أنها مجموعة من الآراء الفكرية، ومن القيم، ومن المناقشات / التصورات التي تتفاعل مع بعضها، لتقدم صورة شاملة عقلانية متناغمة عن المجتمع البشري الذي يراد العيش فيه أو بناؤه. ولقد طرحت تلك الأيديولوجيات تحت مسميات كثيرة من مثل: الليبرالية والاشتراكية والشيوعية والمحافِظة والوطنية / القومية والفاشية والبيئية وغيرها، ومازالت المسميات تتراكم وتتنوع.

مواجهة موضوع الأيديولوجية في الغرب يختلف كثيراً عن مواجهته في بلاد العرب. هناك انبثقت كل تلك الأيديولوجيات من رحم الفلسفات التي قامت عليها الثورات الكبرى منذ قرنين من الزمن، وبالتالي من أجل تحقيق أهدافها فيما نادت به الأنوار والحداثة.

الحداثة الغربية الحالية منتقَدة الآن عندهم بشدة، ومتَهمة في أنها فشلت في تحقيق مبادئ فلسفات الأنوار، الداعية إلى بناء المجتمعات العقلانية، والأنظمة الديموقراطية الحقيقية المشاركة لعموم المواطنين، وعدالة توزيع الثروة المادية والمعنوية، ومساواة المواطنين في الكرامة والإنسانية، والمؤمنة بحتمية التقدم الحضاري واستمراريته، بل وفشلها أيضاً في التعامل الإنساني المطلوب مع تحديات وأخطار التقدم المعرفي الهائل والتطور التكنولوجي المتسارع في العصور الأخيرة.

ومن هنا، المناداة بالتخلي عن الحداثة والانتقال إلى فلسفات ما بعد الحداثة المختلفة في كثير من جوانبها عن فلسفات الحداثة. وهذا يعني تلقائياً التخلي عن الأيديولوجيات التي نبعت من الحداثة وارتبطت بها. أي المناداة بتقديم ثقافة سياسية جديدة لشبابهم خارج إطار الأيديولوجيات القديمة.

ولكن لنعد إلى أرض الوطن العربي ونسأل سؤالاً صريحاً موجعاً: هل الأمة العربية نجحت عبر القرنين الماضيين في بناء حداثتها الذاتية المنبثقة من تاريخها وثقافتها والمواجِهة لواقع تخلفها التاريخي وكوارث انتقالها من أيادي استعمار إلى أيادي استعمار آخر عبر عدة قرون؟ وهل أن الأيديولوجيات التي سادت في الوطن العربي طوال القرن العشرين كانت حصيلة تلك الحداثة الذاتية، أم أنها لم تكن أكثر من تبنّ لأيديولوجيات طرحتها حداثات الآخرين؟

نطرح تلك الأسئلة لنؤكد أهمية ابتعاد أيديولوجياتنا المستقبلية، وبالتالي ثقافة شاباتنا وشبابنا السياسية التي ندعو لها، ابتعادها عن معارك الحداثة وما بعد الحداثة في الغرب، وبالتالي عن معارك نواقص أو فشل الأيديولجيات في تلك المجتمعات الغربية الأوروبية والأنجلوسكسونية على الأخص.

ففي وطن العرب نحتاج إلى أن نتكلم عن فلسفات حداثتنا وأهدافها وأولوياتها، والتي يُفَضل أن تقدم لمواطنينا العرب في شكل مكونات ومنهجيات عمل وأهداف متناسقة ومتناغمة: وبالتالي، وبصوت عال واضح مستقل، في شكل أيديولوجيات عربية.

ولن يضير تلك الأيديولوجيات أن تطرح تحت مسميات قديمة أو تتجاوز ذلك إلى مسميات جديدة، ولا أن تتبنّى أجزاء من أيديولوجيات الآخرين المختلفة، إذا كانت تلك الأجزاء ستتناغم وتتعايش وتقوّي الأجزاء المنبثقة من حداثتنا الذاتية.

وحتى تتضح الصورة أكثر دعنا نتصور كيف نتعامل مع مكون أيديولوجي غربي تحت مسمى العلمانية. فهل حقاً أننا مجبرون أن نتبنّى التعريفات والتطبيقات الموجودة في هذا البلد الغربي أو ذاك، خصوصاً أن الغرب نفسه، وتحت مسمى أيديولوجي مشترك واحد مثل الليبرالية، يتعامل مع مكوّن العلمانية بأشكال مختلفة وأحياناً متعارضة؟ أم نجتهد ونضع فهمنا وتطبيقنا الذاتي للعلمانية، والنابع من حاجاتنا وأوضاعنا الحالية التي نعيشها؟ فقد نجد أن تجديد الفقه يجب أن يسبق الدخول في الاختلافات والمماحكات حول مفاهيم وتطبيقات العلمانية التي هي بدورها تترّنح يميناً وشمالاً مع ما تطالب به فلسفات ما بعد الحداثة التائهة هي الأخرى.

أخذنا هذا المثل لنبرز أهمية أخذ المحاذير في طرحنا للأيديولوجيات العربية المستقبلية.

وقبل وضع الأيديولوجية المنشودة تحت مسمى معين دعنا أولاً الاتفاق على أهمية وواقعية وصدق وصلاحية مكونات الأيديولوجية العربية التي باستطاعتها تكوين ثقافة سياسية توعوية نضالية لشابات وشباب الأمة العربية، والاتفاق على ماهية الأخطاء الفكرية والسلوكية التي يجب تجنبها حتى لا نعطي فرصة لأحد في التشكيك والاستهزاء بحاجة العمل السياسي في الوطن العربي أن يكون ضمن التعدّدية والأخذ والعطاء والتسامح في الاختلاف وتجنب الأخطاء السابقة التي ارتكبها الغير وارتكبها العرب بحق مبدأ وجود الأيديولوجيات والاستفادة من الميزات الكامنة فيها.

موضوع الأيديولوجيات العربية المستقبلية هو في صلب نجاح أو فشل ارتيادنا المستقبل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/2fbde39f

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"