ميزانية «ديكنز» المنضبطة

22:02 مساء
قراءة 3 دقائق

ويليام إف. شوغهارت *

في رواية «ديفيد كوبرفيلد» عام 1850 للكاتب تشارلز ديكنز، قال ويلكنز ميكاوبر، وهو شخصية خيالية: «إن الدخل السنوي الذي يبلغ عشرين جنيهاً، والإنفاق السنوي الذي يبلغ تسعة عشر جنيهاً وتسعة عشر شلناً وست بنسات، يصنعان السعادة. لكن الدخل السنوي الذي يبلغ عشرين جنيهاً، والنفقات البالغة عشرين جنيهاً وست بنسات، يصنعان البؤس».

تعتبر العشرون جنيهاً إسترلينياً من منظور الاقتصاد العالمي اليوم فكة في الجيب، ولكن عندما كتب ديكنز روايته، كان العامل العادي في لندن يتقاضى 20 شلناً في الأسبوع، أي جنيهاً إسترلينياً. وبالطبع كانت تكلفة المعيشة، أقل بكثير في إنجلترا في القرن التاسع عشر مما هي عليه اليوم، وبالنسبة للعامل لا تتجاوز 19 شلناً في الأسبوع، وفقاً لبعض التقديرات.

وبالعودة إلى القرن الحادي والعشرين، يبلغ الدين الوطني للولايات المتحدة الآن (عجز الميزانية الفيدرالية الذي تراكم منذ أوائل الستينيات) أكثر من 34 تريليون دولار، وهو رقم لا يمكن أن يتخيله ميكاوبر، أو مؤسسو جمهوريتنا، ولا حتى معظم الناس الذين يعيشون اليوم. ولا يشمل هذا الرقم بالطبع الالتزامات المستقبلية غير الممولة للضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية، وغير ذلك من برامج الاستحقاق.

وحتى ستينيات القرن الماضي، كان معيار الميزانية المنضبطة يقيد عملية صنع السياسات المالية في واشنطن؛ حيث الإيرادات والنفقات العامة متساوية إلى حد كبير، باستثناء وقت الحرب، عندما كان الاقتراض ضرورياً لتمويل السلاح والعتاد والأفراد.

ومع ذلك، كانت آليات سداد الديون العامة المستنزفة أثناء الحرب، كإنشاء صناديق الإغراق على سبيل المثال، مقبولة على نطاق واسع. وقد استمرت هذه السياسات المالية لحين نهاية الحرب العالمية الثانية. وحتى الرئيس فرانكلين روزفلت، مهندس مبادرات الإنفاق المسرفة في الصفقة الجديدة، روّج لحملته الانتخابية في فترة ولايته الأولى على أساس برنامج يدعو إلى ميزانية فيدرالية متوازنة.

بطبيعة الحال، هناك طريقة أخرى لتمويل الحروب والاستجابة لحالات الطوارئ، غير فرض الضرائب والاقتراض، وهي متاحة فقط للحكومة الفيدرالية، وتتمثل باللجوء إلى مطبعة العملة، أو ما يُعرف بالتيسير الكمي. فتوسيع المعروض النقدي لدفع الإنفاق العام الحالي، مثلما فعلت إدارة لينكولن أولاً بإصدارها «الدولارات» لتمويل حرب الانفصال بين عامي 1861 و1865، وانتهاء بآخر رئيسين للولايات المتحدة خلال جائحة «كورونا»، سيؤدي بشكل متوقع إلى تضخم الاقتصاد، متخفياً بشكل مؤقت وراء ضوابط الأجور والأسعار، كما حدث خلال الحرب العالمية الثانية. لكن الرئيس جون إف. كينيدي كسر قاعدة الميزانية المنضبطة إلى الأبد تحت تأثير «الاقتصاد الكلي الكينزي»، وظل عجز الميزانية الفيدرالية يسير كالمعتاد في واشنطن العاصمة منذ ذلك الحين. بعدها، تفاقمت الأوضاع في عهد الرئيس ليندون جونسون، بسبب المأساة المزدوجة المتمثلة في حرب فيتنام والأجندة المعروفة باسم «المجتمع العظيم»، مروراً بالأزمات المالية العالمية والصدمات الأحدث، والتي لم تكن خلالها المسؤولية المالية واضحة المعالم بين السياسيين وداعميهم وأغلب خبراء الاقتصاد الكلي. وشأنهم شأن ميكاوبر في الرواية، والذي سُجن مرتين بسبب فشله في سداد ديونه، يبدو أن النخب لدينا ستظل متفائلة بأن شيئاً ما سوف يحدث.

باختصار، استمر في إنفاق أكثر مما تكسب، وستجد نفسك في ورطة كبيرة. ومن الواضح أن العجز المزمن في الميزانية يرجع إلى الإفراط في الإنفاق العام، وليس عدم كفاية الإيرادات. وتشير ما تسمى ب «النظرية النقدية الحديثة» أن الحكومة الأمريكية قادرة على الاقتراض والإنفاق بلا حدود، وإذا تم ضخ قدر أكبر مما ينبغي من السيولة إلى شرايين الاقتصاد، فإنه من الممكن امتصاص هذه السيولة عن طريق زيادة الضرائب، وهو ما قد يرقى إلى الانتحار السياسي في عصر كعصرنا اليوم، حيث نمو الناتج المحلي الإجمالي هزيل.

ولهذا السبب، أنا أشعر بالقلق من التعديلات الدستورية المقترحة التي تجبر واشنطن على ضبط ميزانيتها بدلاً من إصلاح عملية صنع السياسات المالية لمجرد تقييد نمو الإنفاق. وإحدى مشكلات عمليات الميزانية اليوم هي أن الرئيس، أو أي لجنة في الكونغرس، ليس مسؤولاً عن سد الفجوة بين جانبي الإيرادات والإنفاق في الميزانية الفيدرالية، كما هو الحال مع معظم حكام الولايات.

يتم اليوم تحديد النفقات الفيدرالية أولاً، وبعد ذلك، كأفكار لاحقة، تُحدد طرق ووسائل تمويل هذا الإنفاق بشكل منفصل.

وبما أن زيادة الضرائب مكلفة سياسياً، فإن الاقتراض (الذي يعني ضمناً ارتفاع الفاتورة الضريبية في المستقبل مع خلق وهم عام بأن الأعباء الحكومية أقل مما هي عليه الآن) يصبح أسهل وسيلة للتنصل من المسؤولية.

وبعيداً عن النفعية السياسية، إذا لم تتمكن الحكومات من زيادة إيراداتها بما يتناسب مع نفقاتها، فيتعين عليها، على الأقل، أن تعمل على التوفيق بين كفتي الميزان.

* مستشار الأبحاث وزميل في مؤسسة «إندبندنت إنستيتيوت» الأمريكية (إندبندنت إنستيتيوت)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yc85te6u

عن الكاتب

مستشار الأبحاث وزميل في مؤسسة «إندبندنت إنستيتيوت» الأمريكية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"