كتب - بنيمين زرزور:
مالت كفة تدفق الأخبار في الحرب الأوكرانية لمصلحة الروس، مؤخراً، مصحوبة بتململ غربي واضح، وشكاوى من نقص الذخيرة، وشحّ الدعم عموماً، بينما سيطرت القوات الروسية على محور أفدييفكا، وعززت تحصين مواقعها في منطقة دونيتسك.
بينما عاد التحالف الغربي للتهديد بهجوم جديد، صرح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، بأن نتيجة الصراع في أوكرانيا قد تحسم في المستقبل القريب. ويأتي ذلك في الوقت الذي صرح فيه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بأن كييف تعتزم عرض خطتها للتسوية على روسيا خلال قمة تنعقد في سويسرا، لاحقاً.
وسط هذه التطورات أطلّ مصطلح «الحياد» الأوكراني برأسه من جديد، في تصريحات أو تلميحات الأطراف المتصارعة. ومنذ بداية الحرب، كانت هناك جولات مفاوضات لم تحرز نجاحاً، وخطط سلام مقترحة تسعى إلى وضع الأساس لإنهاء الحرب. وفي حين أن التوصل إلى حل دائم أصبح أمراً بعيد المنال، فإن ذلك قد يمنح خيار الحياد زخماً.
صحيح أن أوكرانيا ليست غريبة تماماً، عندما يتعلق الأمر بفكرة الحياد، حيث أعربت عن نيتها أن تصبح دولة محايدة عام 1990 تتجنب المشاركة في الكتل العسكرية، وتظهر التزاماً بنزع السلاح النووي. لكن موقف عدم الانحياز هذا أربك سياستها الخارجية، والتي بدت مشتتة بين إقامة علاقات ودية مع كل من الاتحاد الأوروبي، وروسيا، قبل أن يتم التخلي عنها في نهاية المطاف في ديسمبر/ كانون الأول 2014 في أعقاب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وبداية حرب دونباس.
في فبراير/ شباط 2019 تم تعديل الدستور الأوكراني بتصويت أغلبية أعضاء البرلمان، ما وضع البلاد على مسار نحو العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، في أواخر مارس/ آذار 2022، كان الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لا يزال مستعداً لمناقشة إمكانية اتخاذ أوكرانيا موقفاً محايداً كجزء من اتفاق سلام محتمل مع روسيا لوقف الحرب.
أوكرانيا المحايدة
وهناك مؤشرات على أن أوكرانيا تسير على الطريق نحو التحول إلى ديمقراطية كاملة، ونتيجة لذلك، فإن أي قرار بتبنّي الحياد، أو التمسك بمسار جيوسياسي مؤيد للغرب بشكل صريح، يجب أن يعكس رغبات عامة السكان، والتي لم يتم وضعها في الاعتبار. ولن يتوافق بأي حال من الأحوال مع التعريف الضيق للحياد الأوكراني، الذي من المرجح أن يطرحه المفاوضون من الجانب الروسي.
وينبغي أن يدرك صنّاع السياسة الروس، أن تصرفات القوات الروسية في أوكرانيا أطلقت العنان لعداء مزمن موجه، ليس تجاه النخب الروسية فقط، ولكن أيضاً تجاه الشعب الروسي نفسه، وكانت له آثار تتجاوز حدود روسيا في مجال السياسة. وهذه الحرب الضروس قد تصبح السرد التأسيسي عندما يتعلق الأمر ببناء هوية وطنية أوكرانية جديدة، في القرن الحادي والعشرين. وبافتراض أن شكلاً ما من أشكال الحياد ربما يتم فرضه بشكل أساسي على كييف، فإن أوكرانيا المحايدة بحكم القانون، سوف تستمر في الانجذاب غريزياً، نحو الغرب، ولن تكون راغبة في اعتبار نفسها جسراً بين الغرب، و«العالم الروسي»، وسوف تقوم حتماً بتقييم خيارات السياسة الخارجية من منظور مناهض لروسيا.
وبالتالي، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن أن يصدر إعلان رسمي عن الحياد الأوكراني من جانب الحكومة الأوكرانية، والدول الغربية الرئيسية الداعمة لها، بخاصة مع تراجع الثقة بين روسيا والغرب، أكثر من ذي قبل، في الوقت الذي يتم فيه تقليص الجيش الأوكراني لتلبية أحد الشروط التي لا تزال روسيا تصر عليها لإنهاء الحرب، أو على وجه التحديد «التجريد من السلاح».
وبالتالي فإن التسوية التي تتضمن تبنّي الوضع المحايد لن تكون مستساغة في نظر أغلبية المواطنين الأوكرانيين، بخاصة إذا لم تستلزم إعادة جميع الأراضي التي احتلتها روسيا إلى أوكرانيا. ولا يتوافق الاحتمال الأخير بشكل جيد مع الحقائق العسكرية الحالية على الأرض، ويظل قضية غير قابلة للتفاوض من وجهة نظر إدارة بوتين.
الحياد فشل غربي
من وجهة نظر أخلاقية، فإن مطالبة أوكرانيا بإعلان الحياد يعتبر خيانة في نظر الأوكرانيين من قبل الغرب الجماعي، حيث يبدو أن الغرب ينحني لأحد المطالب الرئيسية التي أعلنتها روسيا، خاصة في ضوء التضحيات الشخصية الهائلة التي قدمها الشعب الأوكراني، من أجل النهوض بقضية الأمن الأوروبي.
ويجب على صناع السياسات الغربيين أيضاً، أن يدركوا حقيقة أن الحياد كان في كثير من الأحيان إحدى أدوات فنّ الحكم المرتبط بالدول الصغيرة. ويمكن اعتبار اعتماد الحياد بمثابة فشل من جانب الدول الغربية في الاعتراف بشكل صحيح بأن أوكرانيا، التي كان عدد من خبراء السياسة يعتبرونها قبل عام 2022 جزءاً من صفوف القوى المتوسطة، تحقق حالياً مكاسب هائلة. فهي تتمتع بقدر كبير من القوة الناعمة.
ومن ناحية أخرى، فإن نقل أوكرانيا رمزياً (من دون أيّ خطأ من جانبها)، من مكانة القوة المتوسطة إلى وضع دولة صغيرة من خلال مطالبتها بتبنّي الحياد، لا بد أن يشكل قراءة خاطئة للديناميكيات المتغيرة داخل النظام الدولي، كما أنه يمثل اعترافاً ضمنياً من جانب الغرب، بأن أوكرانيا لا تستحق أن تتمتع بالامتيازات نفسها التي تتمتع بها القوى العظمى.
هذه الامتيازات مهمة جداً، لأنه بينما يسير الحياد الأوكراني جنباً إلى جنب، من الناحية النظرية، مع العضوية المحتملة في الاتحاد الأوروبي، إلا أنه قد يصبح حجر عثرة إضافياً من خلال جعل انضمام البلاد في المستقبل أقلّ جاذبية.
وحتى أكثر المحللين ذكاء على المستوى السياسي يجدون صعوبة في التنبؤ بالكيفية التي قد ينتهي بها الصراع في أوكرانيا، في نهاية المطاف. والأمر المؤكد تقريباً، هو أن عودة ظهور أوكرانيا المحايدة لابد أن يُنظر إليه باعتباره واحداً من السيناريوهات الأقل قابلية للتطبيق، وهو السيناريو الذي لن يكون مفيداً في وضع البلاد بقوة في المعسكر الغربي، حيث تنتمي.