تدابير التقشف الأوروبية

22:10 مساء
قراءة 4 دقائق

جوديث دارلينغ

توصل أعضاء البرلمان الأوروبي ووزراؤه مؤخراً إلى اتفاق جديد للقواعد المالية الناظمة لسياسات الاتحاد وميزانية الدول الأعضاء، يركز على موجة جديدة من التقشف. اتفاقٌ يُحبط طموحات الكتلة في الحقوق الاجتماعية والصفقة الخضراء والسياسة الصناعية الطموحة، ويجب رفضه.

ويؤكد الاتحاد الأوروبي لنقابات العمال على الدور الحاسم الذي تلعبه الخدمات العامة عالية الجودة في تحقيق طموحات أوروبا الصناعية الخضراء، ويعارض تدابير التقشف الجديدة التي ستؤدي إلى تآكل الخدمات العامة، والقاعدة الصناعية، وإلى المزيد من عدم اليقين في القارة عموماً.

وهذا يتماشى مع مطالب آلاف العمال الذين ملأوا شوارع بروكسل في ديسمبر/كانون الأول الماضي من مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، ويمثلون القطاع الصناعي والتجاري والنقل والتعليم والصحة ومجموعة واسعة من الخدمات العامة الأخرى، وكانت لديهم رسالة واضحة مفادها: «لا نريد العودة إلى سياسات التقشف، ونحن بحاجة إلى صفقة عادلة لعمال أوروبا».

وللتأكيد على مخاوف هؤلاء النقابيين، قدرت النقابة أن القواعد المقترحة ستعني تخفيضات في الإنفاق العام بقيمة 100 مليار يورو كل عام على مدى أربع سنوات. وبالنسبة لبلجيكا، سيبلغ الخفض حوالي 27 مليار يورو لفترة تتراوح بين أربع إلى سبع سنوات، ما يؤثر بشكل كبير في الضمان الاجتماعي والصحي والخدمات العامة الأخرى. وأعرب أصحاب العمل ونقابات الخدمات الاجتماعية الأوروبيون عن مخاوفهم، وطالبوا بتوضيح كيفية تأثير القواعد الجديدة في رعاية كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال.

ومع وصول المفاوضات بشأن إصلاح قواعد الإدارة الاقتصادية في الاتحاد إلى نهايتها، يبدو أن صُناع السياسة لم يتعلموا الدرس من العقد الماضي، ويُصرون على تجاهل الضرر الذي لحق بأنظمتنا الصحية وخدماتنا العامة، والذي تجلى بوضوح خلال جائحة كورونا، وهم بذلك يقودوننا إلى عصر جديد من التقشف وأزمة اقتصادية أخرى نتسبب بها ذاتياً.

وفي الوقت الذي تستثمر فيه الاقتصادات الكبرى الأخرى، وأبرزها الولايات المتحدة، في التكنولوجيا النظيفة وفرص العمل الجيدة من خلال نهج مالي أكثر مرونة، يُكبل الاتحاد الأوروبي الاقتصاد بقواعد إدارية جديدة ستمنع جميع الدول الأعضاء تقريباً من الاستثمار في التحول المزدوج وفي الوظائف ذات النوعية الجيدة.

ومع عودة اللغة الصناعية إلى الظهور على الساحة السياسية الأوروبية، فإن القواعد المالية الجديدة من شأنها أن تجعل مثل هذه القواعد امتيازاً لأولئك الذين لديهم جيوب وطنية أعمق، وهو ما من شأنه أن يفتت السوق الداخلية ويعجل بتراجع التصنيع في مساحات واسعة من أوروبا، وبالتالي ستطال الخسارة الجميع. فصناعاتنا متداخلة مع بعضها البعض، وسيؤدي تراجعها في جزء واحد من أوروبا إلى تقويض الاستثمارات في المناطق الأكثر ثراءً في المدى المتوسط.

ووفقاً لبحث أجرته «مؤسسة الاقتصاد الجديد»، تمكنت أربع دول أعضاء فقط من القيام بالاستثمارات اللازمة لتحقيق أهداف اتفاقية باريس، في حين لم يتمكن سوى نصف الدول من تحقيق الصفقة الخضراء الأوروبية عندما نشرت المفوضية الأوروبية اقتراحها الإصلاحي لأول مرة في إبريل/نيسان 2023. ومن المثير للدهشة أن هذا لم يتسبب في تراجع المشرعين المشاركين عن قراراتهم.

ويضغط ما يسمى باللاعبين «المقتصدين والمحافظين» من أجل وضع معيار رقمي مشترك لنسبة الدين أو خفض العجز. ولنكن واضحين قليلاً، مثل هذا المعيار العددي المشترك يعني العودة إلى النهج القديم «المقاس الواحد الذي يناسب الجميع» والمتمثل في ميثاق الاستقرار والنمو الذي أدى إلى الركود المزدوج والانتعاش البطيء للاقتصاد الأوروبي بعد الأزمة المالية عام 2008. وعلينا ألا ننسى التأثير الوحشي الذي أحدثه هذا القرار قبل عقد من الزمن.

وبعد مرور كل هذه المدة، أصبح من المستحيل تحقيق الأهداف الطموحة التي التزم بها الاتحاد الأوروبي في الصفقة الخضراء الأوروبية، والعقد الرقمي، والركائز الأوروبية للحقوق الاجتماعية، دون قواعد الحوكمة الاقتصادية التي من شأنها حماية وتشجيع الاستثمارات الخضراء والرقمية والاجتماعية.

في السياق ذاته، قدرت المفوضية الأوروبية أن الكتلة بحاجة إلى استثمارات عامة وخاصة إضافية بنحو 520 مليار يورو سنوياً لتنفيذ أجندتها الخضراء. وتشير تقديرات مراكز الأبحاث الرائدة «أغورا»، و«بروغل»، و«باتشياتي» إلى أن الحكومات يجب أن تستثمر 1% إلى 1.9% من ناتجها المحلي الإجمالي، أو 159 مليار يورو إلى 323 ملياراً سنوياً لتحقيق الأهداف المناخية المتفق عليها في الاتحاد الأوروبي، وعلى النحو المنصوص عليه في إطار منتدى الاقتصاد الوطني.

ويجب أن يكون الاستثمار العام مصحوباً بشروط اجتماعية، ولا ينبغي أن تذهب الأموال والعقود إلى الشركات التي لا تبرم اتفاقيات مع النقابات، وتتجنب دفع حصتها العادلة من الضرائب، أو للشركات التي لا تحترم التزاماتها البيئية.

ختاماً، من المستحيل الوفاء بوعد الصفقة الخضراء الأوروبية بانتقال عادل للعمال ومجتمعاتهم دون إلقاء نظرة شاملة على الاحتياجات الاستثمارية الهائلة لإزالة الكربون من الإنتاج، وصقل مهارات العمال، ومعالجة نقص 2 مليون موظف في مجال الخدمات الصحية والرعاية، وحل أزمة السكن الاجتماعي. وفي الوقت الحالي، لا توجد ضمانات متوقعة في القواعد المالية لحماية هذه الاستثمارات.

هناك خيارات سياسية مطروحة على الطاولة في الانتخابات المقبلة، ويجب التصويت لصالح مجتمع أكثر عدالة للجميع. لكن، إذا سمحنا للتقشف بالعودة إلى مفاصل حياتنا، فإن التكاليف السياسية المدمرة التي تتحملها الخدمات العامة وقاعدتنا الصناعية ستؤدي إلى المزيد من التشكك في عموم أوروبا.

* الأمينة العامة لمنظمة «industriAll Europe» (يوروآكتيف)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4stdre5p

عن الكاتب

الأمينة العامة لمنظمة «industriAll Europe»

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"