حلم العدالة بين الشرق والغرب

00:04 صباحا
قراءة 4 دقائق

تجد الأمم في زمن الأزمات وانتشار الظلم حاجة ماسة للمطالبة بتحقيق العدالة وإنصاف المظلومين وإعادة الحقوق المسلوبة لأصحابها، ويؤشر التداول الواسع لخطاب العدالة إلى وجود شعور ضاغط لدى الشعوب المستضعفة بالقهر وضعف القوة وقلة الحيلة، وكأن لسان حالهم يقول ما ردّده الشاعر كريم العراقي: «عدالة الأرض مذ خلقت.. مزيّفة/ والعدل في الأرض.. لا عدل ولا ذمم». وعلى الرغم من ذلك فعدالة الأرض هي التي شكلت منذ القدم الرهان الأساسي للحضارات والثقافات الإنسانية.

ويشهد تاريخ الإنسانية على التطورات التي عرفها مفهوم العدالة من قانون حمورابي القائم على مبدأ القصاص، إلى المدونات المعاصرة للعدالة التي سعت إلى التخفيف من وطأة الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها جهاز العدالة من خلال وضع مستويات متعدّدة للتقاضي لتجنب التسرع في تنفيذ الأحكام، فالإنسان في حاجة ماسة لعدالة الأرض -بكل عيوبها ونقائصها- ليتمكن من تحقيق أهدافه وطموحاته الدنيوية.

يتحدث آلان مانك في قاموسه حول السلطة عن الدور المحوري الذي باتت تلعبه العدالة في توجيه المؤسسات وفي حياة الأفراد، فقد وصل الأمر بجهاز العدالة إلى التدخل في قرارات السلطة التنفيذية، وبخاصة في اسكتلندا ببريطانيا، عندما قررت المحكمة العليا منع الجهاز التنفيذي من الدعوة لإجراء استفتاء في البلاد من دون الحصول على موافقة مجلس العموم. ويرى الكاتب أن ظاهرة هيمنة جهاز العدالة في الدول الغربية، باستثناء الولايات المتحدة التي يوجد بها نوع من التوازن بين السلطات منذ انفصال أمريكا عن العرش البريطاني، تعود لعدة أسباب، لكن أبرزها يتمثل في تراجع قوة السلطتين التشريعية والتنفيذية نتيجة لعدم رضا الناس عن السياسات المتبعة، وتراجع مستوى الطبقة السياسية، كما أن الإحساس بالعجز الذي تنشره السلطة السياسية نفسها يجعل السلطة القضائية تملأ هذا الفراغ المؤسساتي لترسيخ سطوتها على المجال العمومي بشكل مستمر، وهذه الوضعية وإن كانت تسهم في إيجاد سلطة مضادة للسلطة التنفيذية فإنها تهدد بجعل السلطة القضائية تتجاوز صلاحياتها الدستورية.

وكمثال لهذا التجاوز الذي تقوم به السلطة القضائية من خلال تدخلها في شؤون السياسية، يشير مانك إلى الوجود المستمر للقضاة في الحياة السياسية في فرنسا، كما حدث أثناء دعمهم المترشح إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية لسنة 2017، وإسهامهم من ثم في إضعاف منافسه القوي فرانسوا فيون، في سباق الرئاسة بطريقة ما زالت تثير الكثير من علامات الاستفهام.

ويذكُر مانك أيضاً الإصرار الذي عالجت به العدالة الفرنسية ملف الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي الذي وصل إلى درجة إخضاع هاتفه للتصنت، وكأن القضاة كانوا يقومون بتصفية حسابهم معه لأنه وصفهم بالبازيلاء، وهي كلمة تستعمل أيضاً في الثقافة الفرنسية للإشارة إلى شخص يملك دماغاً صغيراً ويتميز بقلة الذكاء، وذلك ما يمثل بحسبه تجاوزاً للصلاحيات القانونية، ووصلت غطرستهم إلى حد مقاطعة رئيسة محكمة النقض والنائب العام لمراسيم تنصيب رئيس الجمهورية الضامن الأول لاستقلالية العدالة.

وفي مقابل هذا الانتشار الهائل للسلطة القضائية في الدول الغربية يتحدث أوبير فيدرين عن غموض صلاحيات العدالة الدولية وعن ضعف قدرتها على التدخل بمعزل عن سلطة الدول الكبرى، ويشير إلى أن الظهور البارز لفكرة العدالة الدولية بدأ سنة 1872 عندما اقترح غوستاف موينيير، أحد المؤسسين للجنة الدولية للصليب الأحمر، تأسيس محكمة لملاحقة المتجاوزين للاتفاقية 14 لجنيف. وتميزت العدالة الدولية بعد ذلك، بكونها عدالة المنتصرين خاصة بعد الحربين العالميتين. فقد كانت محكمة نورنبيرغ ومحكمة طوكيو تحملان طابعاً سياسياً، ومثلت بعد ذلك محكمة يوغوسلافيا ورواندا الخطوة الأولى لتأسيس عدالة دولية قادرة على إنصاف ضحايا المجازر والإبادة الجماعية. بيد أن محكمة العدل الدولية تميزت في مجمل نشاطها بالتركيز على الدول الضعيفة في إفريقيا وقامت بمتابعة العديد من رؤساء القارة السمراء.

ويطرح عمل المحكمة الدولية أسئلة محرجة نتيجة لرفض دول مثل أمريكا والصين وروسيا والهند المصادقة على ميثاقها، ويأتي ذلك الرفض نتيجة لتورط بعض هذه الدول لا سيما الولايات المتحدة في العديد من الجرائم والإبادة الجماعية في فيتنام وأفغانستان والعراق، وما يدفع إلى الاستغراب أن واشنطن التي ترفض الاعتراف بسلطة المحكمة رحبت بقرار رئيسها عندما أصدر أمراً باعتقال الرئيس الروسي، لكنها تحفظت في المقابل على عمل المحكمة فيما يتعلق بمتابعة جرائم الحرب في قطاع غزة.

وبالتالي فإن فكرة العدالة الدولية حتى وإن كانت تمثل حلماً تتمسك به شعوب العالم، فإنه يظل صعب المنال بالنظر إلى طبيعة العلاقات الدولية القائمة على القوة المادية المفرطة، ومن الواضح في كل الأحوال أن إخفاقات العدالة الدولية هي جزء من إخفاقات العدالة في العديد من الدول الوطنية التي يشعر فيها المواطن بالحيف وقلة الإنصاف.

ويمكن القول بناءً على ما تقدم إن وضعية العدالة في صيغتها الدولية وفي صورتيها الغربية والشرقية ليست في أفضل أحوالها، فهي في الغرب تتجاوز صلاحياتها وتسقط في العديد من التجاوزات، وهي في الشرق، وتحديداً في الصين وروسيا، أسيرة لتدخلات السلطة السياسية ولأهواء مسؤولي مؤسسات الدولة المركزية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mwcxkkh4

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"