مفتاح شعيب
لم تنجح فرنسا في تشكيل حكومة جديدة، بعد أكثر من شهر ونصف على فوز تحالف اليسار، ممثل الجبهة الشعبية الجديدة في الانتخابات التشريعية، التي شكلت نتائجها صدمة غير متوقعة في حينها، لكنها خلقت بعد ذلك أزمة كأداء لم تجد النخبة الفرنسية لها حلاً، واستعادت زخمها بعد انتهاء الهدنة السياسية التي فرضتها استضافة باريس لدورة الألعاب الأولمبية.
منذ عقود طويلة لم تعرف فرنسا صيفاً يعتريه القلق على الاستقرار السياسي كما يحدث حالياً، في ظل حكومة مستقيلة بقيادة غابريل أتال حطمت رقماً قياسياً في تصريف الأعمال، وجمعية وطنية بكتلها البرلمانية الكبرى المتنافرة، من اليسار والوسط واليمين المتطرف، وهي كتل، وإن لم تتساو في عدد المقاعد، إلا أن كل واحدة منها تعتبر نفسها الأكثر تعبيراً عن فرنسا، ما عقد المشهد السياسي وأربك التواصل منذ الساعات الأولى لصدور نتائج اقتراع يوليو الماضي، أما النتيجة السياسية لتلك الانتخابات، فكانت أن ألقت بفرنسا في مسار محفوف بالمخاطر لتبقى معلقة دون أفق واضح لتشكيل حكومة جديدة.
فرقاء الجمعية الوطنية الفرنسية الذين التقاهم الرئيس إيمانويل ماكرون تباعاً، بحثاً عن أرضية مشتركة بين الجميع، رغم أن قيادات حزبه «النهضة» تأمل ألا يحدث توافق، وتظل البلاد معلقة أفضل من أن يتمكن اليسار الراديكالي من تزعم حكومة، يراها كثيرون من يمين الوسط، أكثر خطراً وتشدداً من اليمين المتطرف نفسه الذي يمثله حزب التجمع الوطني وزعيمته مارين لوبان، لكن فرنسا لا يمكن أن تظل بلا سلطة مستقرة، ولا يرغب ماكرون في أن توصم السنوات الثلاث الأخيرة من ولايته الرئاسية بالتأزم، وأن يظل «بطة عرجاء» في الإليزيه، فهذه النهاية لن تخدم مساره السياسي وقد تخرجه من تاريخ رؤساء فرنسا عبر باب ضيق.
ربما لهذا السبب استعاد مؤخراً، بحكم منصبه، مبادرة الاتصال بمختلف الأطراف لتجاوز هذا المأزق الصعب، الذي يضيق عليه بفعل ضغوط «الجبهة الشعبية» الرامية إلى تسمية رئيس جديد للحكومة، وهم يقصدون الخبيرة الاقتصادية الشابة لوسي كاستيس (37 عاماً)، التي يبدو أن توافق أطراف الجبهة على ترشيحها مفاجأة أخرى من تبعات نتائج الانتخابات الأخيرة.
كاستيس، اليسارية المثيرة للجدل، تحظى بدعم كبير من حزب «فرنسا الأبية» بزعامة جون لوك ملونشون، وهي تحمل أجندة يصفها الوسطيون بأنها متطرفة لأنها تضرب في الصميم كل السياسات التي أقرها ماكرون، فقد تعهدت بإلغاء إصلاح نظام التقاعد، والإقدام على إصلاح ضريبي كبير، ومكافحة الجرائم المالية التي تقوم بها بعض الشركات الاستشارية.
ومن المؤكد أن مثل هذه التعهدات تثير فزع كل القوى التي لا تؤمن بها، وربما لذلك فقط يرفض ماكرون تعيينها بحجة أنه يريد زعيماً حكومياً يتمتع ب «دعم واسع ومستقر» لتجنب التصويت البرلماني بحجب الثقة.
ويبدو أن هذه الحجة لم تقنع كل الأطراف، وقد تتوصل مشاورات اللحظة الأخيرة إلى توافق تكتيكي هش قد يسمح بتشكيل حكومة من اليسار ويمين الوسط، وبدورها ستكون ضعيفة وفاقدة الفاعلية، بينما الصراع السياسي سيستمر خارجها وتأجيل الحسم إلى موعد الانتخابات الرئاسية عام 2027.