الشارقة: علاء الدين محمود
رواية «الربيع»، للكاتبة الإسكتلندية آلي سميث، الصادرة عربياً في طبعتها الأولى عام 2023، عن دار روايات بترجمة ميلاد فائزة، هي من الروايات السردية الفائقة الجمال، وهي أشبه بقصيدة لكونها تنهض برافعة اللغة الشعرية، وتفرد مساحة واسعة للتعبيرات الجمالية والمقاطع التي تكتسي باللغة القشيبة.
تتفجر الكلمات في هذه الرواية، ينابيع من السحر البلاغي، وتصنع الصور والمشهديات والعوالم الممتعة، إلى جانب المسائل الفكرية التي وظفتها الكاتبة لتخدم جماليات السرد، الذي يتكئ على لغة الشعر، وهو دائماً يكون جذاباً وممتعاً، حيث يشبع القارئ شغفه بالجمال من خلال مقدرة الكاتب على التعبيرات البلاغية وصناعة المفردات والجمل المجازية، وعقد التشبيهات والتفنن في صناعة الصور، ما يمنح العمل لمسة حالمة ومحببة، كما أنها من قبل المؤلف وسيلة لتمرير العوالم البائسة والثقيلة التي قد تحتشد بها الرواية.
*جبال الهموم
تتضمن الرواية حمولة سياسية ثقيلة، وتتجول في تفاصيل البؤس والشقاء والخوف من المصائر المظلمة، وخلف تلك اللغة الشاعرية للكاتبة توجد جبال من الهموم والمخاوف تحاول أن تطرحها وتتقاسمها مع القراء، حيث تحمل الأحداث تحذيراً شديد اللهجة، والواقع أن هذه الرواية هي ضمن أعمال أخرى للكاتبة تحمل أسماء فصول السنة، فهناك «الشتاء»، ببرودته القارصة، و«الخريف»، بغضبه المزمجر، والصيف بمفارقته الغريبة، و«الربيع»، حيث الاحتفاء بالأمل، فهو ما يتبقى للإنسان مهما أظلمت الدنيا في وجهه، وجميع تلك الأعمال الروائية للكاتبة تشكل حالة من التأمل العميق في واقع «الأمة»؛ أي بريطانيا تحديداً، خاصة في تقلباتها السياسية الأخيرة منذ موجات الهجرة والانفصال عن الاتحاد الأوروبي وصعود اليمين، كما تتناول كذلك واقع الغرب عموما.
*تحولات
تعمل الكاتبة على رسم حكايتها في هذه الرواية، من خلال النظر إلى واقع التحولات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وتعمل على تحشيد السرد بالرؤى الفلسفية والأفكار المختلفة، كما تطل على واقع الإنسان من خلال الرصد القوي لمسيرة الأفراد في حقول ألغام التحولات، وهي مسألة برعت فيها الكاتبة كثيراً، حيث جعلت من الأمل عنواناً عريضاً في انتظار المصير المجهول، فالفكرة الرئيسية تتمحور حول مفهوم الخلاص من تلك الورطة التي حشر فيها السياسيون البشر، لذا، فالرواية محتشدة بالأسئلة خاصة عما حدث لبريطانيا؟ من حيث الفكر السياسي والبيئي والاجتماعي، وهو السؤال الذي يبحث عن إجابة عميقة، تقوم بفعل التفكيك والتحليل، إذ إن الكاتبة، من خلال ما يجري في بريطانيا، تقدم إدانة للرأسمالية وعصر العولمة والاستهلاك، فالرواية هي هجائية ساخنة ولاذعة لروح هذا العصر.
*وحشة
تستعرض الرواية عدداً من المشهديات والصور القاتمة التي تعكس البؤس الكبير الذي تعيشه البشرية في أكثر قلاعها تقدماً «الغرب»، حيث الحضارة والفلسفة والفكر، وكل تلك الأشياء التي لم تشكل مانعاً أو حاجزاً يحول دون الوقوع في براثن الوحشية، ونقرأ في الرواية: «الأولاد في مناجم الفحم في هذه اللحظة، نعم هذه اللحظة... أنت تعلم أنهم هناك. ينقبون عن الكوبالت المستخدم في جميع أنواع السيارات الكهربائية الصديقة للبيئة... يجلس الأولاد الذين يرتدون الخرق المتبقية من قمصان «هيلو كيتي» في حظائر العمالة الاستعبادية ويضربون البطاريات القديمة بمطارق لاستخراج المعادن التي تسمّمهم لدى لمسها... ولا ننسى أن مئات آلاف الأطفال الذين ولدوا في بريطانيا ويعيشون في ربوعها، والله أعلم بماذا يقتاتون للبقاء على قيد الحياة، ربما الهواء، في نسخةٍ جديدة ناجزة من الفقر البريطاني القديم نفسه».
*فضاءات
وتفرد دار كلمات هذا المقطع الذي يتصدر العمل الروائي من أجل الإحاطة بفضاءات وعوالم الحكاية: «تجري الرواية في بريطانيا حول شخصيتين أساسيّتين عبر مراحل من حياتيهما: ريتشارد ليز، وبريتاني هول؛ المطحونان تحت ثقل الحياة الحديثة والممارسات غير الإنسانية للمتحكمين في السياسة. ريتشارد رجل ستّينيّ ومُخرج مسرحي، وحيد وأعزب منذ أكثر من عشرين عاماً؛ هجرته زوجته وحملت طفلتهما معها ولم يلتق بهما ثانية. مذّاك، يدفعه يأسه لمحاولة إلقاء نفسه تحت عجلات قطار. أمّا بريتاني فهي حارسة أمن في مركز لاحتجاز اللاجئين، وتعيش التناقض اليوميّ بين أن تصبح حارسة أمن قاسية ومتعالية، لتنجح في عملها، وبين أن تُمسي امرأة حسّاسة للحياة والعالم. تلتقي الشخصيتان بأُخرى في زمن روائي متقلّب وأحداث واقعية أشبه بالسحر».
*تفاصيل
ريتشارد ليز، هو رجل ميّال إلى الانتحار وفي حالة كآبة وحداد على وفاة صديقه المقرّب، أما بريتاني فهي محبطة على الدوام، وهناك أيضاً شخصية «ألدا»، وهي أمينة مكتبة عاطلة عن العمل وناشطة سريّة، وأيضاً هناك «فلورانس»، وهي فتاة لامعة تبلغ من العمر 12 عاماً تبحث عن والدتها. في الحبكة الدراميّة للقصّة، تشهد الشخصيات النسائية الثلاث على محاولة ريتشارد الانتحار في محطة قطار نائية في إسكتلندا، وتقنعه فلورانس الفتاة الموهوبة والمفرطة في الكلام بالابتعاد عن السكة الحديدية، ويصبح ما سيقومون به كلّهم هناك، محور القصّة السرديّة.
*فقدان الأمل
وفي سياق القصّة، نعلم لماذا فقد ريتشارد الأمل، حيث إن حزناً شديداً قد ألم به نتاج فقدان صديقه وانحدار أحواله المهنية، فيما تحمل حياة بريتاني يأساً من نوع آخر، فهي فتاة لامعة تتحدر من أسرة فقيرة انتهى بها الأمر إلى العمل حارسة سجن في أحد مراكز الاحتجاز التي تُعنى بطرد المهاجرين في المملكة المتحدة. في الواقع، تُعرف هذه المراكز جيداً بانتهاكاتها حقوق الإنسان، فهي تشتت العائلات وتسجن أشخاصاً لم يرتكبوا أي جرائم. حيث تغوص الرواية عميقاً في أغوار النظام المرعب والمجرّد من الإنسانية من خلال شخصية بريتاني التي اعتادت اعتبار الآخرين معتقلين.
*تقنيات
والملاحظ أن عنوان الرواية «الربيع»، يبدو مراوغاً جداً، حيث إن الأحداث في هذا العمل أكثر قتامة من تلك التي في روايات «الخريف»، و«الشتاء»، و«الصيف»، لكن يبدو أن ما يميز هذه الرواية تحديداً ويجعها جديرة باسم أو عنوان «الربيع» هو التمسك بالأمل، كما أن الكاتبة برعت على مستوى عدد من التقنيات السردية مثل الوصف وتوظيف اللغة الساحرة من أجل تخفيف عبء بؤس الواقع قليلاً، إضافة إلى التفرد في صناعة الشخوص، حيث إن أي شخصية في العمل هي حالة فكرية كاملة، وكل واحد من تلك الشخصيات يمثل جانباً من جوانب الناس في بريطانيا وربما في أوروبا كلها، كما أن الكاتبة برعت بصورة كبيرة في المزج بين الخطاب الجدلي والحبكة، إلى جانب توفير عوالم جامحة تحفل بالمفارقات والتناقضات والجنون، فقد كانت الميزة الأساسية لسميث في هذه الرواية والأعمال التي سبقتها «الصيف»، و«الشتاء»، و«الخريف»، هي محاولتها استعادة وليم شكسبير، على مستوى اللغة والأساليب الفنية، بل وحتى المواضيع، وكأن الكاتبة في استدعائها لشكسبير، تعيد أن روحه خير معين لها في مواجهة هذا العصر القاتل، أو ربما هو حنين لأزمنة مضت، كرفض لواقع التشظي والتفكك والتحلل في العلاقات البشرية، وكذلك الأسرية والاجتماعية، والانفصال عن الواقع، حيث يبدو أن الكائنات في عصر العولمة هذا تمضي وحيدة هائمة.
*اقتباسات
«الجدار أصبح جبلاً وأصبح الجبل نوعاً من الجدار».
«بمجرد أن تتوقف عن النظر إلينا، ستشعر بالحاجة إلى النظر إلينا».
«ماذا حدث لجميع الناس الطيبين في هذا البلد؟».
«علينا أن نقول كل الأشياء القديمة وكأنها جديدة».
«نحن بحاجة إلى كلمات تعني ما نقوله»
«ما يبدو ثابتاً ومثبتاً ومغلقاً في الحياة يمكن أن يتغير وينفتح».
«ما لا يمكن تصوره الآن، سيكون ممكناً في وقت آخر».