الصدع المستجد في العلاقات الأذرية - التركية

00:49 صباحا
قراءة 4 دقائق

محمد نورالدين

شكلت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخيراً، إلى أذربيجان، علامة مفصلية في إعادة تركيب أحجار النفوذ في منطقة جنوب القوقاز، فالاهتمام الأذري بالزيارة كان استثنائياً، وأقل وصف أذري لروسيا أنها حليف استراتيجي.
خلال الزيارة، أو ربما مباشرة بعد انتهائها، كانت باكو تقدم طلباً للانضمام إلى منظمة «بريكس» التي تعتبر روسيا والصين حجرَي الزاوية فيها، ومع أن «بريكس» توجد فيها دول موالية للغرب، غير أن خيارات باكو الخارجية تتحدد بصورة كبيرة تبعاً لمواقف الدول من عدوّة أذربيجان الأولى، أي أرمينيا.
يقول الكاتب الأذري ألتشبن جعفروف، إن إعادة تشكيل الاستقطاب من جديد في منطقة القوقاز يعزز المحور الروسي الأذري، مقابل المحور الآخر المؤلف من أرمينيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، لكن في خضم هذا المشهد لا يمكن تجاهل وجود أحد أهم اللاعبين في المنطقة، وهو تركيا، التي تحظى بعلاقات متشعبة، وواسعة مع كل الأطراف المعنية بالمنطقة، فأنقرة عضو في حلف شمال الأطلسي، ولها علاقات متنامية ومهمة مع روسيا، كما لها علاقات «استراتيجية» مع أذربيجان، إلى درجة وصف شعبي البلدين بأنهما «شعب واحد في بلدين»، غير أن تركيا التي عرفناها هكذا في علاقاتها الأذرية، تواجه تحدياً قد لا يكون حله مستعصياً، لكنه جدير بالتوقف عنده.
العلاقات الاستراتيجية التي بدت في لحظة متماسكة وقوية، شهدت منذ 27 يوليو/ تموز الماضي خضة قوية، يومها خرج أردوغان بتصريحه الشهير بقوله «كما دخلنا قره باغ، وكما دخلنا ليبيا، سنكرر الأمر نفسه تجاههم»، وكان يقصد بذلك الإسرائيليين، في سياق انتقاد إسرائيل لعدوانها المتمادي على غزة، غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، إذ خرجت وزارة الدفاع الأذرية لتردّ على أردوغان، بالقول إن انتصار أذربيجان على قره باغ تحقق بسواعد الجيش الأذري، وحده، من دون أي مشاركة من أي طرف آخر.
التزمت تركيا الصمت حينها، لكن ما لبثت صحيفة أذربيجان الرسمية أن كتبت افتتاحية مطولة في الأول من أغسطس/ آب، من دون توقيع، فنّدت فيه ادعاء أردوغان المشاركة في الحرب الوطنية الأذرية ضد أرمينيا عامَي 2020 و2023.
لا شك في أن تصريحات أردوغان هذه قد أصابت الرئيس الأذري الهام علييف، في الصميم، فالأخير أظهر نفسه بطلاً للحرب الوطنية، وتحرير الأرض، وتوحيد الوطن، وبات «الزعيم غير المنازع» داخل أذربيجان، وفاز في انتخابات رئاسية مبكرة في 6 فبراير/ شباط الماضي، بنسبة 92%، والقول إن تركيا كانت شريكة مباشرة في الحرب يسيء إلى النصر الذي تحقق، وإلى صورة البطل الوطني، كما يقلل من شان أذربيجان كدولة صاعدة بقوة على الصعيد الإقليمي، لذلك لم يكف بيان وزارة الدفاع حتى ألحق بافتتاحية مطولة عن الموضوع.
جاء في افتتاحية «أذربيجان»، أن الجيش الأذري «أنهى في حربَي 2020 و2023 مئتي عام من الألاعيب الأرمنية، وهذا النصر هو الأعظم على امتداد تاريخنا، وأظهر بلدنا على الساحة الدولية زعامة حاسمة، ولاعباً مهما اقتصادياً وسياسياً»، وعزت الافتتاحية هذا الانتصار إلى الجيش الأذري، وحده.
وفي تلميح إلى كلام أردوغان، جاء في الافتتاحية أن البعض في تركيا هدّد بدخول القدس كما دخل قره باغ، و«هذا كلام عار عن الصحة، وصادم، وهدفه التحريض، ومؤسف ممن يعتبرون أنفسهم أصدقاء لأذربيجان، وعلى الجميع في تركيا أن يعملوا على نفي هذه الأكاذيب التي تؤذي مصالح الشعبين».
وجاء أيضاً، أن أذربيجان عبر نخجوان عملت على التقريب بين تركيا والعالم التركي، وفي أذربيجان عملت مئات الشركات التركية، وكانت أذربيجان مدافعة عن تركيا في المحافل الدولية.
وقالت الافتتاحية «إن تركيا قدمت خلال الحرب الوطنية دعماً، سياسياً ومعنوياً، لأذربيجان ونحن لها شاكرون.. إن للنصر آباء كثراً، أما الهزيمة فيتيمة، ونحن نأسف لادعاءات كاذبة حول المشاركة في النصر»، وقالت بلهجة حادة: «إن نتائج نصر أذربيجان هي لكل العالم التركي، لكن مهندس النصر وصانعه لا دخل لتركيا فيه، وإن الحديث عن مساعدات تركية عسكرية لتحرير الأراضي كاذب من أساسه».
وانتهت الافتتاحية المطولة إلى القول، إن أذربيجان استفادت من التكنولوجيا العسكرية، وأسلحة الدول الأخرى، بما فيها مسيّرات بيرقدار، التركية، لكننا دفعنا ثمنها كلها، ولم تكن بالمجان، والذي انتصر ليست الإمكانات العسكرية، بل جنودنا، وضباطنا. إنه نصرنا، يكفي أن نكون واضحين ومستقيمين».
حتى الآن تركيا لا تلتزم الصمت، ويأخذ الصحفي مراد يتكين، على أردوغان «تمنينه» أذربيجان، ويقول إنه إلى جانب تركيا، فإن اسرائيل وباكستان كانتا الأكثر مساعدة لأذربيجان، لكن أياً منهما لم يقل ذلك، والآن العلاقات بين أذربيجان وإسرائيل أقوى مما كانت عليه قبل عملية «طوفان الأقصى»، أما فهيم طاشتكين في «غازيته دوار»، فيرى في زيارة بوتين، واهتمام علييف الكبير بها، محاولة من باكو لتعديل موازين القوى التي اختلت في السنوات الأخيرة لمصلحة تركيا.
ويترقب الكثير مآل العلاقات بين تركيا وأذربيجان بعد هذا الصدع، وليست مصادفة أن فلاديمير بوتين الذي لا يجد منذ سنتين الوقت لزيارة تركيا، نراه فجأة في باكو، وسط احتفاء بالغ. قد لا يكون الخلاف الحالي بين أنقرة وباكو سوى زوبعة في فنجان، لكن ليس من السهولة ان يتراجع أردوغان عن كلامه، فالسهم خرج من القوس، ومصالح الدول القومية الناشئة مثل أذربيجان، تتقدم العُراضات الكبيرة الخاصة بالعالم الاسلامي، أو التركي، والتي يحاول البعض، ومنهم أردوغان، أن يتصدّرها، لذا ينتظر الجميع ما سيكون عليه المخرَج لفضّ الخلاف بين البلدين، خصوصاً أن القوقاز تنتظره قضايا كثيرة معقدة.

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"