محمد نورالدين
لم تعد مجموعة دول البريكس العشر مجرد نظرية على ورق، فهي تتقدم على أرض الواقع وتجذب المزيد من الدول، وبعدما كانت تضم خمس دول، هي: روسيا، الصين، الهند، البرازيل وجنوب إفريقيا، أصبحت عشراً بعد الانضمام الرسمي إليها مطلع العام الحالي من قبل السعودية والإمارات وإيران ومصر وإثيوبيا.
«مجموعة العشر».. هذه يمكن أن تصبح 11 دولة بعدما تقدمت تركيا بطلب انضمام إليها قبل أسابيع.
في الشكل يمكن القول إن هذه المنظمة تزداد حضوراً، وهي تسعى لتكون قوة اقتصادية تواجه كتلة الاتحاد الأوروبي كما القوة الأمريكية، أو هكذا يحمّلها المراقبون، وفي هذا الإطار أنشأت المجموعة بنكاً للتنمية بميزانية 100 مليار دولار ومنح قروض تصل إلى خمسة مليارات دولار سنوياً لمشاريع استثمارية في الدول الأعضاء، وربما تأتي محاولة التداول بالعملة المحلية خطوة طموحة للاستغناء عن الدولار كعملة تداول عالمية أو التقليل منها.
ومع أن هذه المبالغ متواضعة قياساً إلى ميزانيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حيث ميزانية هذا الأخير فقط تقارب الألف مليار دولار، فإن العمل على تغيير قواعد النظام الاقتصادي العالمي تستغرق وقتاً طويلاً قد يصل إلى عقود، هذا إذا كانت الخطوات ثابتة وجدية، لذلك فإن تركيا عندما تقدمت بطلب العضوية لم يكن العامل الاقتصادي في أساس الطلب وهذه مفارقة.
العلاقات الاقتصادية التركية مع الغرب تشكل أكثر من 60% من حجم التجارة الخارجية التركية، وكلها بالدولار أو باليورو، كما أن 80% من الاستثمارات الأجنبية في تركيا هي من دول الاتحاد الأوروبي فقط، وبالتالي فإن ما قد تقدمه مجموعة «البريكس» لتركيا صغير، ومع ذلك فإن تركيا تراهن على أن الخطوة في حال تحققها سوف تفتح أمام الاقتصاد التركي نافذة استثمارية ومالية جديدة مهما بلغ حجمها، صغيراً كان أو كبيراً، وفي الأساس فإن تركيا كانت قد بدأت مثل هذا الانفتاح الاقتصادي منذ سنوات على روسيا والصين وتجارتها الخارجية معهما أكبر من العلاقات مع أي دولة أخرى منفردة، وإن كان الميزان يميل بشكل كاسح لصالح روسيا والصين.
لكن عضوية «البريكس» تكتسب بالنسبة لتركيا أهمية أخرى وحساسة، بل موضع نقاش وتساؤلات، فالعامل الاقتصادي لم يكن دافعاً حاسماً لطلب تركيا عضوية «البريكس»، ويجب التفتيش بالتالي عن سبب آخر سيكون العامل السياسي في أساسه.
يرى الكاتب محمد علي غولر، أن مجرد الغموض الذي أحاط أساساً بطلب تركيا والإعلان عنه من قبل موسكو وليس من قبل أنقرة يخفي تكتيكات تركيا واللعب على أكثر من حبل، فهي تريد الانضمام ولا تريد، بل ربما تستخدم هذه المسألة ورقة في سياساتها الخارجية، وهذا ربما ديدن سياسات الحكومة التركية في أكثر من قضية على الصعيد الخارجي، فتركيا دولة تنتمي إلى حلف شمال الأطلسي، وبالتالي في حال انضمت إلى «البريكس» ستكون الدولة الأطلسية الوحيدة في هذا المجال.
التوقيت لا شك ذو دلالة كبيرة، فهو يأتي في غمرة اصطفاف عالمي شديد وسط حربين كبريين في أوكرانيا وفلسطين، وهذا يجر إلى وضع أكثر من علامة استفهام على الدور التركي يذكّر مباشرة بمسألة صواريخ إس 400 التي اشترتها تركيا من روسيا، إذ كيف لدولة أطلسية أن تنضم إلى مجموعة فيها، بل رائدتها دولة معادية للغرب مثل روسيا وأخرى منافسة بقوة للغرب هي الصين.
هذا ما فعلته تركيا عندما رفض الغرب تزويدها بصواريخ «باتريوت» لحماية مجالها الجوي في وجه «التهديدات» الإقليمية، سواء من الشرق او اليونان وقبرص، وعندما رفضت الولايات المتحدة بيع تركيا «باتريوت»، وعندما حصلت محاولة انقلاب على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عام 2016 اتجه إردوغان الى روسيا التي وافقت فوراً على صفقة إس 400.
وتلت ذلك بداية مرحلة تذبذب في العلاقات التركية الأمريكية لا تزال حتى الآن، يقول أحد رجال الأعمال والسياسة الأتراك جاويد تشاغلار، الذي توسط بين روسيا وتركيا بعد إسقاط الطائرة الروسية في خريف 2015، إن المسألة واضحة: تلغي تركيا صفقة «إس 400» تعود العلاقات بين أنقرة وواشنطن إلى طبيعتها.
لم تكتف الولايات المتحدة بالضغط على تركيا لتجميد صفقة الصواريخ أو عدم استخدامها، بل أخرجت تركيا من مشروع إنتاج طائرات «إف 35» المقاتلة المتطورة، الآن ربما يكرر التاريخ نفسه، تركيا تطلب ود مجموعة «البريكس»، و«البريكس» سوف توافق وهي تعرف تماماً أن الخطوة ليست اقتصادية في العمق بل سياسية، وترى الباحثة نيلغون آريصان، أن طلب تركيا الانضمام هو «رفع يد تركيا ضد الغرب»، فيما ترى الباحثة مهدان صاغلام، أن هدف تركيا من طلب الانضمام أن تكون «البريكس» منصة اعتراض على السياسات الغربية ضد تركيا.
تركيا تشكو تلكؤ الاتحاد الأوروبي في المحادثات مع تركيا لأسباب «واهية»، وينحاز الغرب بالكامل إلى جانب إسرائيل على حساب الفلسطينيين، ويعمل على تدعيم القدرات الدفاعية لعدوين لدودين لتركيا، هما اليونان وقبرص الجنوبية، كما أن تركيا تشكو من الدعم الأمريكي الكامل للقوات الكردية في شرق الفرات بسوريا والتي تصفها تركيا ب «الإرهابية».
لذلك فإن غموض دوافع طلب الانضمام التركي إلى مجموعة «البريكس» يعكس في العمق جانباً من الارتباك التركي في سياساتها الخارجية بعمل الشيء ونقيضه، وهذا مؤشر على أن تركيا تبتعد كثيراً عن سياسات الحياد الواقعية التي اتبعها مؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك في عهده (بمعزل عن سياساته الداخلية الاستئصالية ومسألة لواء الاسكندرون)، والتي غمز من طرفها مؤخراً الرئيس المصري عبدالفتاح السياسي بعيد مغادرته أنقرة.
https://tinyurl.com/2p8spw3c