حالة غياب أم تروٍّ وتقرير مصير؟

00:42 صباحا
قراءة 4 دقائق

جميل مطر
أتيحت لي فرصة استدراج الآراء حول التوصيف المناسب لمواقف عديد الأطراف من المشروع الذي أقسم نتنياهو وحكومته وبعض حلفائه على تنفيذه في الشرق الأوسط، وجارٍ بالفعل تنفيذه بتكلفة مادية وبشرية باهظة. تجمّعت عندي أوصاف كثيرة لهذه المواقف بعضها غير لائق تكراره، وبعض آخر يعكس حيرةً وارتباكاً، وبعض ثالث راضٍ ومؤيد مع تحفظ، وبعض رابع راضٍ ومؤيد من دون قيد أو شرط.
توقفت طويلاً عند رأي أطلقه أو تناقله أو تمسك به كثيرون بعضهم من العاقلين والنجباء المخلصين وطنياً وقومياً، خلاصته موجزة ولكن موحية وتقع في ثلاث كلمات هي «حالة غياب عربي». تشاورت مع عدد من أصحاب هذا الرأي. استبعدنا سوء النية والتواطؤ والمبالغة، وتفهمنا دعاوى وأحياناً الضغوط الخارجية والداخلية، وقبلنا مرغمين حجج ضعف الإمكانات المخصصة للسياسة الخارجية ومنها الاستعدادات الدفاعية والأمنية. كانت تجربة في الحوار والمشاورات مثمرة خلاصتها في النقاط التالية:
*أولاً: ساعدتنا التجربة ونوعية المشاركين وتاريخهم في وضع حدود واضحة وتعريفات صريحة لمفاهيم من نوع التواطؤ والتبعية والاختراق من الخارج والشكوك المتبادلة بين أطراف عربية والعداء للسامية أو عداء السامية المتبادل في الشرق الأوسط والجوانب الغامضة في العلاقات الإيرانية الأمريكية، ومفاهيم أخرى تثير الجدل حول كثير من الأفكار والآراء المطروحة حالياً في ساحات صنع السياسة والقرار، وساحات الرأي في الشرق الأوسط.
*ثانياً: كان ولا يزال مفيداً الإقرار بداية بأن موقف كل من روسيا والصين من عمليات تعميق الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين ومن سياسات توسيع هذا الاحتلال يستحق الصفة التي ترددت معه، وهي أنه يعكس «حالة غياب» غير مفهومة من جانب حكومتي الصين وروسيا. كثيرون انتظروا من الصين وروسيا موقفاً من اعتداءات إسرائيل أقل حذراً وتردداً.
*ثالثاً: ليس كل العرب، ولا أغلب العرب، ولا حتى نسبة يعتدّ بها من العرب يستحقون صفة الغياب التي أطلقها أصحاب رأي واسع في العالم العربي وخارجه. نحن في الشارع وفي أعمالنا غاضبون، وأهلنا في الشارع وفي أعمالهم غاضبون. نحن وأهالينا مثل كثيرين في الشوارع العربية منفعلون وإن كنا غير فاعلين بنفس قدر الانفعال. تتمنى لو هبّ إعصار أطاح بهذه الدولة التي تجاوزت في الشرور كل الحدود، حتى حدود الأسطورة التي تتغنى بها وتتباهي في مدارسها وصلواتها.
*رابعاً: الشعب الفلسطيني حاضر بشجاعة وبقوة وبتضحيات هائلة. السلطة الفلسطينية غائبة مثل بعض حكومات دول عربية أخرى. هنا مثلاً عندما سُئلنا وجدنا صعوبة في تبرير غياب السلطة التي تدّعي أنها «سلطة مقاومة» وغياب قوات أمنها وحماية أبناء وبنات المخيمات في أنحاء الضفة. ولو حدث مثل هذا في عاصمة دولة عربية أخرى لكانت لدينا صفة أخرى تنفع في وصف موقفها.
*خامساً: خلصنا ضمن خلاصات أخرى إلى أن النظام العربي ممثلاً في مؤسسته القومية، أقصد العربية، فشل على امتداد سبعين سنة أو أكثر فشلاً ذريعاً في صنع أو حتى في وضع أساس يصلح لصنع منظومة أمن جماعي أو، حتى قطاعي أو جهوي، عربي.
*سادساً: حصل إجماع في الرأي بأن فلسطين، اسماً وعنواناً ومقاومة وكياناً وشعباً، لم تحصل يوماً منذ نكبتها الأولى على مثل ما تشهده اليوم من تعاطف وانبهار واعتراف على امتداد ساحات أممية شاسعة. لم يدخل حوارنا في جدل غير لائق ولا مناسب ولا أخلاقي تحت عنوان إن كان كل هذا يستحق أو لا يستحق الدماء التي سالت على طريق تخليص وطن عربي سليب من براثن استيطان متوحش تدعمه الدولة الأعظم والأقوى في تاريخ العالم.
*سابعاً: سقط قطر عربي بعد الآخر في غياهب الفوضى والحرب الأهلية أو ينتهي أمره إلى مصالح تتقاذفها ميليشيات مسلحة تتلفح بالدين أو بصراعات السلطة أو بمكافحة بعضها البعض الآخر أو بعصبيات طائفية أو وبصريح العبارة سقطت بأفعال أو لأخطاء أمريكية..
رأينا في حوارنا مستقبلاً أفضل. الآمال كبار في أن التطور الجاري في النظام الدولي يمنحنا كأقطار عربية منفردة أو مجتمعة فرصاً عديدة لتغيير تحالفاتنا الخارجية. نرى عالم الجنوب ينهض ويدعونا للنهوض معه. نهضنا من قبل ونحن فيه ونجحنا قبل أن نقرر فرادي أو جماعات أن نغيب.
الآمال كبار أن نعود لنقتحم، جماعة أو فرادى، مع المقتحمين علوم وفنون الصعود والمناعة، وأن نستعيد للذاكرة العربية أفكار وخطط التكامل الإقليمي، أو القومي إن شئتم. شعوبنا بعد هذه التجربة الأخيرة مع الدرس الأعنف على يد إسرائيل وحليفها جاهزة أكثر من أي وقت مضى للانطلاق نحو نهضة جديدة واستقلال جديد. انطلاقة لا بد أن تبدأ باستعادة وحدة أقطار عربية انفرطت بفعل فاعل ووضع قواعد عمل جديدة، أو تحديث وتعزيز قواعد قائمة لعمل عربي مشترك، وتحديث الوعي العربي في تعاطيه مع قوى إقليمية صاعدة في منطقة الشرق الأوسط.
بالأمس قال نتنياهو إنه جاهز لصنع شرق أوسط جديد. هل تدارسنا فيما بيننا الأمر، أم نحن عن مثل هذه الأمور المصيرية ننشغل بأمور أقل أهمية؟ هل يستحق الأمر العرض على مجلس للجامعة العربية على مستوى القمة؟ هل يستحق أن نتشاور في شأنه مع أعضاء مجموعة «البريكس» التي تعتبر مستقبل الشرق الأوسط يقع ضمن خياراتها؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3vcvf5yw

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"