أندي هوم *
يُمكن لمحبي هواتف «آيفون» المصنعة من التيتانيوم أن يتنفسوا الصعداء، فاقتراح الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بأن تضع موسكو حداً أقصى لصادرات المعدن الحيوي رداً على العقوبات الغربية، لن يجبر الشركة الأمريكية المصنعة ل «أبل» على العودة إلى أغلفة الفولاذ المقاوم للصدأ، لأن موردها الرئيسي حالياً هو الصين.
لكن على المقلب الآخر، ينبغي لصناع السياسات الأوروبيين أن يشعروا بالقلق، إذ لا يزال قطاع الفضاء والطيران في الاتحاد الأوروبي يعتمد على واردات التيتانيوم الروسي من شركة «فيسمبو أفيسما» VSMPO-AVISMA، أكبر منتج متكامل لسبائك التيتانيوم والألمنيوم والمغنيسيوم والصلب في العالم.
وكانت أوروبا حظرت بالفعل، أو لنقل قيّدت، واردات المعادن الروسية الأخرى ولكن ليس التيتانيوم. وعندما فرضت كندا عقوبات على شركة «فيسمبو أفيسما» في فبراير/شباط الماضي، تدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإقناع رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بمنح شركة إيرباص وشركات الفضاء الأخرى إعفاءات. وهذا ما حدث. لكن مشكلة أوروبا تكمن في أنه حتى لو تمكنت من تحرير نفسها من أحضان موردها الروسي، فإنها تخاطر بتبديل اعتماد على آخر.
وبهذا الصدد، يُثمن مصنعو الطائرات، مثل إيرباص وبوينغ، التيتانيوم لنفس السبب الذي جعل «أبل» تختاره عماداً لهواتفها آيفون «15 و16 برو»، لكونه خفيف الوزن وقوياً بشكل لا يصدق، وله نقطة انصهار عالية، فضلاً عن مقاومته للتآكل. بالتالي، أصبحت سبائك التيتانيوم أحد المدخلات التصنيعية الرئيسية لقطاع الطيران، وتستخدم في المحركات ومعدات الهبوط وجسم الطائرة. لذا يجب أن تكون معايير النقاء عالية جداً.
لكن إمدادات التيتانيوم من الدرجة الجوية محدودة بشكل كبير، لأن الموردين يجب أن يحصلوا على اعتماد منتجهم من قبل مُصنّعي الطائرات، وهو ما قد يخلق مشكلة تموجات خطِرة في سلسلة التوريد. حيث تطلب شركة بوينغ من الموردين سجلاً ورقياً لمدة 10 سنوات لمشترياتها من التيتانيوم بعد اكتشاف أن بعض الأجزاء ربما جاءت بوثائق مزورة. كما أن عدد منتجي مسحوق التيتانيوم الإسفنجي الذين يمكنه تلبية هذه المعايير العالية يقتصر على حفنة من الشركات اليابانية والكازاخستانية، وبالطبع، «فيسمبو أفيسما» الروسية.
في الواقع، يُعتقد أن الأخيرة، التي تتميز بمعالجة الخام حتى السبائك، زودت قرابة ثلث قطاع الطيران العالمي قبل حرب أوكرانيا عام 2022. وكانت أوروبا الوجهة الأولى للصادرات الروسية من منتجات التيتانيوم في عام 2019، حيث مثلت 45% من إجمالي قيمة الصادرات، وفقاً لمذكرة إحاطة صادرة عن المفوضية الأوروبية. وشكل المعدن الروسي، ومعظمه في شكل منتجات سبائك مشغولة لقطاع الطيران، 16% من واردات الاتحاد الأوروبي في ذلك العام.
برغم محاولة سلسلة التوريد الأوروبية فطام نفسها عن التيتانيوم الروسي، فإن رد الفعل على العقوبات الكندية دليل على أن الاعتماد لا يزال قائماً. ومشكلة أوروبا هي أنها لا تمتلك إنتاجاً محلياً لإسفنج التيتانيوم، وسعة سبائك محدودة، ولا توجد بها مرافق إعادة تدوير تقريباً. وعلى الرغم من أن أوكرانيا يمكن أن تكون مورداً محتملاً في المستقبل، فمن غير المؤكد إلى حد كبير مدى سرعة حدوث ذلك، كما أن أوروبا لا تملك أي وسيلة للمعالجة حالياً.
بدورها، تعتمد الولايات المتحدة بشكل شبه كامل على واردات التيتانيوم الإسفنجي منذ إغلاق مصنع TIMET Corp في هندرسون بولاية نيفادا عام 2020، وتفتخر بمكانة مهيمنة في الجزء متوسط القيمة من سلسلة التيتانيوم المستخدمة في صناعة الطائرات. حيث تخلط واردات الإسفنج الياباني مع الخردة المحلية لإنتاج السبائك، وتحويلها إلى منتجات مشغولة، وفقاً لورقة بحثية نُشرت في يوليو/تموز بواسطة مؤسسة «تشاثام هاوس» البحثية.
والواقع أن قدرة واشنطن على المعالجة تتوسع مع وصول لاعبين آخرين مثل شركة IperionX، التي تهدف إلى زيادة الإنتاج في مصنع إعادة تدوير التيتانيوم الجديد في فيرجينيا إلى 10 آلاف طن متري سنوياً.
نعم. ينص قانون المواد الخام الحرجة للاتحاد الأوروبي، الذي دخل حيز التنفيذ في مايو/أيار من هذا العام، على أنه بحلول عام 2030 يجب أن يمثل الاستخراج المحلي 10% من الاستهلاك السنوي للكتلة، مع معالجة 40% وإعادة تدوير 25%. لكن أوروبا ليست قريبة حتى من أي من هذه الأهداف عندما يتعلق الأمر بالتيتانيوم.
وسيكون هذا بمثابة موازنة صعبة بين مصالح شركات الطيران والفضاء الأوروبية ونفوذ الموردين الأمريكيين في سياق قاعدة إعادة تدوير محلية محدودة على غرار صفقة عام 2021 التي أنهت النزاع طويل الأمد بين بوينغ وإيرباص.
في نهاية المطاف، يُمثل كسر حلقة التبعية عبر الأطلسي تحدياً كبيراً لمستقبل الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، يُعدّ تخفيف قبضة شركة «فيسمبو أفيسما» الخانقة على منتجات التيتانيوم ذات الأهمية الاستراتيجية الشاغل الأكثر إلحاحاً. والمفارقة بالنسبة لصناع السياسات الأوروبيين هي أن خردة التيتانيوم الأوروبية تشكّل مصدراً مهماً لإنتاج المعدن في الولايات المتحدة، مع ما يقرب من 70% منها تذهب إلى الولايات المتحدة.
إن حلقة إعادة التدوير في أوروبا تمر عبر الأطلسي وليس محلياً بفضل اتفاقيات إعادة الشراء التي تلزم مصنعي أجزاء الآلات الأوروبية بإعادة خردة التصنيع إلى مورديهم في الولايات المتحدة. وهذا يقيد القارة بعلاقة غير متكافئة مع الموردين. وهو ما يثبط بدوره الحوافز للاستثمار في القدرة على إعادة التدوير المحلية، ويعمق مشكلة الاعتماد الاستراتيجي الأوروبي على كل من روسيا والولايات المتحدة.
* كاتب متخصص في أسواق المعادن الصناعية «رويترز»