أحمد مصطفى
تمثل الابتكارات التكنولوجية أهم عوامل التطور في عالمنا المعاصر، ولا يقتصر تأثيرها في تسهيل حياة البشر أو زيادة مستوى الرفاهية، إنما أصبحت تلك الابتكارات تطال كل مناحي الحياة الضرورية والأساسية منها بخاصة. بل وتجاوزت تبعاتها الاقتصادية مجرد النمو في قطاع التكنولوجيا، لتصبح عاملاً مهماً في النمو الاقتصادي العالمي.
أحدث تلك الابتكارات، التي ستبقى معنا لفترة، هي الذكاء الاصطناعي. ومع أنه في النهاية تطوير لبرامج كمبيوترية سابقة، إلا أنه مزج بين برامج البحث على الإنترنت، وبرامج عرض سيناريوهات التوقع، باستخدام خوارزميات معقدة. ومع أني لست ضليعاً في البرمجيات، إلا أن علاقتي بالفضاء الرقمي خاصة في سنوات عملي الأخيرة، تجعلني قادراً على تصور أهمية هذا التطور البرامجي وتطبيقاته. باختصار مبتسر يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي، هو تطوير برامجي من البحث إلى الإبداع المعتمد على المحتوى الهائل المتاح على الإنترنت.
بغض النظر عن أية تفاصيل تقنية ليس مجالها هنا، يحذر كثير من الخبراء في هذا المجال من تبعات التطوير المستمر للذكاء الاصطناعي. وهو ما يجعل كثيرين يطالبون بضرورة وضع قواعد تشريعية وتنظيمية لاستخدامات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته. وتتجاوز مطالب التقنين والتنظيم الجوانب الأخلاقية والقانونية، وتمتد إلى جوانب متعددة تتعلق بالاستخدام، ومنها الجوانب العلمية والاقتصادية أيضاً.
قبل أيام كنت أتحدث مع صديق في مجال الأكاديميا في جامعة مرموقة، أخبرني بمشكلة يواجهونها حالياً مع مشروعات الطلاب، سواء من الخريجين أو طلبة الدراسات العليا. فاستخدامهم لتطبيق الذكاء الاصطناعي «تشات جي بي تي» لإعداد مشروعات التخرج وأطروحات الدراسات، أصبح متطوراً جداً، بحيث يصعب الحكم إن كان المنتج البحثي هو من «تأليف» تطبيق الذكاء الاصطناعي أم من إبداع الطالب.
طبيعي أن يستعين الطلاب، وحتى الباحثون في مجالات العلوم المختلفة ببرامج الذكاء الاصطناعي – كما أنهم يستخدمون ما قبلها في تسهيل البحث، وجمع المعلومات والمساعدة على تحليلها. لكن في النهاية يكون للباحث أو العالم الجهد النهائي في الاستنتاج والخلاصة. أما أن يكون المحتوى بالكامل «صناعة» برنامج كمبيوتر، فهذا ما يمثل مشكلة. ليس لأن المحتوى الناتج قد يكون أقل قيمة وجودة، ولكن لأنه في النهاية هناك أزمة إلى مَنْ ينسب المنتج البحثي والعلمي: إلى «تشات جي بي تي» أم إلى من يستخدمه؟.
هذا مجرد مثال على الإشكاليات التي تواجه العالم في التعامل مع الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، والتي من الضروري أن تتعامل معها التشريعات والقواعد المنظمة المقترحة. لكن تبقى مشكلة وهي أن ذلك جهد يتجاوز قدرات سلطات التشريع وتنظيم العمال التقليدية. فحين سألت صديقي الأكاديمي عن رأيه في الحلول المقترحة لمواجهة مشكلة استخدام الطلاب لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، لم يكن لديه جواب، وإن كنت أتصور أن جامعته وجامعات مماثلة تفكر في الأمر. كل تلك الجهات سيكون مطلوباً منها أن تسهم في الإعداد للتشريعات والقواعد المنظمة لاستخدامات الذكاء الاصطناعي.
التحديات التي يفرضها تطوير الذكاء الاصطناعي المستمر تزيد مع كل تطوير، وللأسف لا يعني ذلك المستثمرين والشركات الناشئة في هذا القطاع الذين هدفهم الأول هو تحقيق الأرباح والاستفادة من الإمكانات الواعدة للاستثمار في هذه التكنولوجيا. ولعل مسألة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي في حد ذاتها، تشكل تحدياً مع بدء مستثمرين كبار التشكك في إمكانية أن تحقق استثماراتهم العائدات التي تخيلوها في البداية.
هناك تزاحم شديد على الاستثمار في شركات الذكاء الاصطناعي، وفي الوقت نفسه ما زالت الشركات الناشئة في القطاع «تحرق الأموال»، دون تحقيق عائدات بعد. وهناك مخاوف بالفعل حالياً من أن تبدأ «حمى» الاستثمار في الذكاء الاصطناعي بالبرود. ولن يقتصر نتاج ذلك على القطاع وشركاته فحسب، ولا حتى على أسواق الأسهم ومؤشرات شركات التكنولوجيا، إنما على الاقتصاد العالمي كله. وليست هناك مبالغة في ذلك، إذ إن بعض المحللين والاقتصاديين سبق وتوقعوا أن يكون تطور الذكاء الاصطناعي هو المنقذ للاقتصاد العالمي من مرحلة التباطؤ الحالية.
لا غرو طبعاً في الاحتفاء بالذكاء الاصطناعي، مثل أي ابتكار بشري وتطور تكنولوجي بالتحديد، حتى المبالغة في التفاؤل بهذا التطور قد تكون مفهومة أيضاً. على الرغم من الإحباط يكون على قدر التفاؤل، أي أن الاحتمالات السلبية يكون وقعها أكثر ضرراً في حال زيادة التوقعات المسبقة.
ربما يكون من السابق لأوانه الحديث عن توقعات الذكاء الاصطناعي، وتأثيره الواسع، بينما هذا التطور في بداياته المبكرة. في الوقت ذاته، من المهم التحسب لكل الاحتمالات إذا كان للبشرية أن تحقق الاستفادة القصوى من هذا التطور والابتكار. ففي النهاية يسير كل تطور جديد في شكل منحنى صاعد، ثم فترة استقرار مستقيم، ثم يأخذ في الهبوط.
وتعتمد التقديرات السليمة والتوقعات التي يبني البشر عليها خططهم المستقبلية على مدى دقة حساب مراحل ذلك المنحنى. ولعل في مسار الابتكارات والتطورات التكنولوجية السابقة، ما يساعد على تقدير مستقبل الذكاء الاصطناعي. فغالباً ما تصل الابتكارات إلى حد التشبع في مدة معقولة، لكن مع تسارع الابتكارات، خاصة في مجال التكنولوجيا أصبحت فترة التشبع أقصر، لكن في الأغلب تستمر فترة الذروة المستقيمة لمدة أطول.
[email protected]
https://tinyurl.com/vtphy8af