لا شك أن فترة رئاسة دونالد ترامب الثانية للولايات المتحدة التي تبدأ مطلع العام القادم لن تكون مثل الأولى التي سبقت رئاسة جو بايدن. ومنذ ما قبل الانتخابات والعالم كله يحلل ويتوقع ويقدّر كيف سيحكم الرئيس العائد لرئاسة أقوى بلد في العالم لمدة أربع سنوات مقبلة.
يرى المتشائمون أن الرئيس السابق عاد لينتقم من كل من يعتبرهم مناوئيه في الداخل والخارج، وليكمل ما بدأه في فترة رئاسته الأولى من استهداف لما يسمى «المؤسسة» بسياسات يغلب عليها الشطط. ويرى المتفائلون أن ترامب في فترة الرئاسة الثانية يكون أكثر تعقلاً، أو بمعنى آخر «مستأنساً» سياسياً ومتسقاً مع أسلوب الإدارة التقليدي الذي تتميز به المؤسسة.
وهناك بين هؤلاء وهؤلاء من يرى أن ترامب الثاني سيكون بين هذا وذاك، أي أنه لن يتخلى عن طريقته في الإدارة التي تعتمد على «الشخصانية» إلى حد كبير في مواجهة المؤسساتية، لكنه بالتأكيد قد يكون تعلم من فترة رئاسته الأولى وفترة وجوده خارج السلطة لمدة أربع سنوات، بما يجعله أقل «صدامية».
بداية، يصعب تصور أن «يتغير» شخص يقترب من الثمانين، وبالتالي فطباع الرجل كما هي، وكانت بشائرها إشراكه ممول حملته الأهم إيلون ماسك في أول مكالمة هاتفية بينه وبين الرئيس الأوكراني زيلينسكي. ودلالة ذلك ليس «الوفاء» للممولين بقدر ما هي موقف الرجل من المؤسسة، وإصراره على إدارة بلاده بطريقة «خارجة عن المألوف»، واستمرار طريقته في التعامل بمنطق أنه «مشهور» يحق له أن يفعل ما يريد، بغض النظر عن أية قيود أو قواعد يفرضها عليه منصبه.
مع ذلك، ربما استفاد ترامب ومن حوله من تجربة الرئاسة الأولى، ليس بمعنى أن الرجل أصبح «سياسياً» بالمعنى التقليدي وأنه سيلتزم بأصول ومعايير الحكم كما ترسّخت على مدى عقود، ولكن لتفادي «مطبات» الرئاسة الأولى، بهدف تنفيذ ما يريده من دون أية «فرملة» له من قبل مؤسسات الدولة أو نتيجة فشل اختياراته لأركان إدارته.
في فترة رئاسته الأولى كان ترامب غريباً تماماً عن السياسة والحكم وبيروقراطية الدولة، وجاءت اختياراته لأركان إدارته بطريقة «التعويل» على الموالين، بغض النظر عن خبراتهم في مجال تعيينهم. وهكذا، خرج أغلبهم من الوظيفة بسرعة، نتيجة فشلهم أو لاصطدامهم برئيسهم. وكان ذلك معطلاً لكثير مما أراده ترامب ولم يحققه. لكن هذه المرة يتم اختيار أركان الإدارة بشكل أفضل، وإن ظل معيار الولاء لشخص الرئيس أهم من الولاء للدولة/المؤسسة. وهذا ينسف إلى حد كبير احتمال «استئناس ترامب» الذي يراه المتفائلون، وإن كان يخفف إلى حد كبير من الأضرار الجانبية التي يحذر منها المتشائمون.
سيساعد ترامب في إنفاذ ما يريده، أنه هذه المرة لن يعطله الكونغرس عن اتخاذ القرارات وتنفيذها، فحزبه الجمهوري يسيطر على مجلسي الكونغرس على عكس ما كان الأمر في فترة رئاسته الأولى. ليس هذا فحسب، بل إن المحكمة العليا التي عَيَّن فيها قضاةً موالين له في نهاية فترة رئاسته الأولى أصبحت «ترامبية» إلى حد ما. وقد ردّت له الجميل بقرارها منح حصانة للرئيس حين لجأ إليها في فترة محاكماته قبل الانتخابات.
ربما يتصور البعض أن رئيساً بكل هذه القوة، يملك السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في آن واحد، قد يردعه هول نفوذه ويجعله أقل انفعالية ورد فعل ومتدبراً لقراراته وسياساته. لكن ذلك لن يكون صحيحاً تماماً. والأرجح أن تركيز كل السلطات في يده سيجعله يسارع بإنفاذ ما يريد، متصوراً أنه «يحسن صنعاً».
المشكلة أن ذلك سيبدو أمراً جيداً للأمريكيين، الذين صوّتوا له والذين لم يصوّتوا، خاصة أنه سيبدأ بتنفيذ بعض وعوده الانتخابية، التي أغرت أكثر من نصف الناخبين بالتصويت له. وفي مقدمتها موقفه من الهجرة والمهاجرين، وحتى إذا لم يتمكن من طرد الملايين كما وعد، فإن الحدّ من الهجرة سيكون له أثر سلبي في المدى المتوسط على سوق العمل والاقتصاد عامة.
الأمر الآخر هو السياسة التجارية الانعزالية، بفرض رسوم على الواردات من كل شركاء أمريكا التجاريين، وبالأخص الصين التي سيكبّل صادراتها تماماً، تليها المكسيك، ثم أوروبا وغيرها. لن يقتصر أثر ذلك على انعزالية أمريكا وتشكك حلفائها في جدوى العلاقات معها، بل سيكون له أثر داخلي أيضاً، إذ إن القيود على الاستيراد ستخفض العرض مقابل الطلب في السوق المحلية، ما يعني ارتفاع الأسعار.
سيفاقم من الضغوط التضخمية أيضاً خفض الضرائب الذي وعد به، واحتمال تدخله في السياسة النقدية، منتهكاً استقلالية البنك المركزي، ليدفع بأسعار الفائدة نحو مزيد من الانخفاض. وسيعني ذلك زيادة أكبر في الطلب المحلي، مع توفر السيولة وبالتالي المزيد من التضخم.
لن يعبأ ترامب بذلك، فربما لا تظهر تلك الآثار إلا مع نهاية فترة رئاسته، وبالتالي تكون مشكلة من سيخلفه بينما يباهي هو باستمرار ارتفاع مؤشرات الأسواق وغرق الأمريكيين في التيسير النقدي والمالي الذي سيتم تمويله حتماً بمزيد من الاقتراض، وبالتالي غليان فقاعة الدين أكثر.