في مفهوم التبعية

00:42 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الإله بلقزيز

ينتمي مفهوم التّبعيّة، في بنائه النّظريّ الحديث، إلى الفكر الاقتصاديّ الذي نشأ فيه، أوّل مرّة، وصار مفهوماً سَيّاراً في حقله التّداوليّ قبل أن تستدخلَه علومٌ ومباحث عدّة في جملة منظوماتها المفهوميّة. يوضَعُ المفهومُ هذا، من حيث الدّلالةُ، في مقابل مفهوم الاستقلال، بحيث يعني تلك الحالة النّاقصة التي تقع في موقعٍ دون رتبة الاستقلال، أو التي تتحدّد بوصفها النّقيضَ الموضوعي من الاستقلال بحيث لا تسمح طبيعتُها بأن تنتقل من هيأتها - كتبعيّة - لكي تصير استقلالاً في مرحلةٍ لاحقة.
وما من شكٍّ في أنّ بين تعيين التّبعيّة بما هي رتبةٌ دون الاستقلال في التّطوّر وتعيينِها بحسبانها نظاماً ممتنعاً على الصّيرورة إلى استقلالٍ فارقاً يفسرهُ الاختلافُ في المنطلقات النّظريّة، أعني في كيفيّات وعي ظاهرة التّبعيّة وفي الفرضيّات التّأسيسيّة التي عليها مبْنى كلِّ وعيٍ لها. وغيرُ خافٍ أنّه يتولّد عن كلٍّ من المفهومين، بالتَّبِعَة، نتائج نظريّة متباينة في التّعامل مع ظاهرة التّبعيّة وما يقترن بها من مسائل ومشكلات.
يميل كثيرٌ من الدّارسين الاقتصاديّين إلى تعريف التّبعيّة الاقتصاديّة لمجتمع ما بأنّها حالة اضطراريّة يدفع إليها واقعُ الاحتياج الذي قد يكون المجتمعُ ذاك رازحاً فيه نظراً إلى ندرة الموارد وضَعْف الإمكانيّات، أو إلى حداثة عهده بالبناء الاقتصاديّ والإنتاجيّ كما في البلدان الحديثة استقلالاً عن الاستعمار.
التّبعيّة، بالمعنى هذا، وليدةُ حاجةٍ ونقصٍ يجد فيها الاقتصاد - ومعه المجتمع - نفسَه واقعاً فيهما موضوعيّاً من دون أن يريد. إنّها ترادف في المعنى، هنا، مفهوم التّخلُّف بما هو تجسيدٌ لحالةٍ من التّطوّر متدنيّةٍ وقد تكون بطيئةً، ولكن - وهذا الأهمّ - تجسيدٌ لحالةٍ من الافتقار إلى الغير لسدِّ الحاجة والأوَد. ها هنا يصير الفارق بين البلد الرّازح في أغلال التّبعيّة (المتخلّف والتّابع) والبلد الذي يَنْشَدّ إليه ويتوقّف عليه (المتقدّم) فارقاً في التّطوُّر، أي تصبح العلاقة الحاكمة لهما هي علاقة التّفاوُت في التّطوُّر. هكذا يصير في إمكان بلدان التّبعيّة - بموجب مفهوم التّبعيّة هذا - أن تتدارك تخلُّفها وتَخرُج من براثنه ما إنْ تُحْرِز نجاحاً في تسريع وتائر التّنمية فيها، فتتدارك بذلك الفارقَ بينها وتلك التي بلغت مراتب التّقدّم. التّبعيّة، بالمعنى هذا، حالة انتقاليّة لا حالة دائمة أو قُل، حالة تاريخيّة لا حالة بنيويّة تستعصي على المجاوَزة إلا بالخروج عن نظام العلاقة القائم.
في مقابل هذه النّظرة إلى التّبعيّة، يميل فريقٌ ثانٍ من الدّارسين في ميدان دراسات التّنمية والعلوم الاقتصاديّة إلى مفهوم آخر مختلف للتّبعيّة يشدّد على بعدها البنيويّ الثّابت. التّبعيّة، في منظور هذا التّيّار، علاقةٌ، هي علاقةُ ارتباطٍ تَشُدُّ تابعاً إلى سيّدٍ فتمنعه من حيازته كينونتَه المستقلّة وتضع، بالتّالي، مصيرَهُ كتابعٍ رهْن يدي المتبوع. والتّبعيّةُ التي من هذا الضّرب لا تكون كذلك، أي علاقة انشدادٍ بنيويّ، إلا متى قامت على أساس انتماء البِنيتين الاقتصاديّتيْن لدى التّابع والمتبوع معاً إلى نظامٍ إنتاجيّ واحد، ومتى دخلت بنيةُ التّابع، بالنّتيجة، في نطاق شبكة سيطرة بنية المتبوع الإنتاجيّة. نشأ نموذجٌ مرجعيّ لهذه العلاقة بين البنيتيْن في امتداد الانكفاء الاستعماريّ الاضطراريّ للدّول الأوروبيّة والغربيّة عن مستعمراتها في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاّتينيّة، وحيازةِ هذه المستعمرات استقلالها السّياسيّ الذي سرعان ما بَدَا شكليّاً ومنقوصاً مع استمرار روابط التّبعيّة الاقتصاديّة للبلدان المستعمَرة سابقاً.
حين جَلا المحتلّ الأجنبيّ وفُكّكَت إدارتُه المدنيّة والعسكريّة، لم يَبْقَ منه إلا بعضٌ من السّلطان الأمنيّ والعسكريّ على البلدان المستقلّة، ولكن بقيَ منه - مع ذلك- الكثيرُ من السّلطان الاقتصاديّ العميق. كان مبْنى هذا السّلطان على البنيات الاقتصاديّة التي ازدرعها الاستعمار في تلك البلدان وجعلها تابعة لبنياته في مراكزه الغربيّة، أي كان مبناهُ على مواريثَ ثقيلة لا قِبَل للبلدان المستقلّة بالتّحرُّر من ثقلها وآثارها. ولأنّ النّظام الإنتاجيَّ واحد، وهو نظام الإنتاج الرّأسماليّ، فقد يَسَّر ذلك على القويّ في هذه العلاقة أن يرسّخ التّبعيّة تلك في المجالات الإنتاجيّة والماليّة والنّقديّة لتصير نسخةً أخرى معدَّلة من الاستعمار السّابق!
التّبعيّة في مفهومها الثّاني المومأ إليه، ظاهرةٌ خاصّة بالحقبة التي سيطر فيها النّظام الرّأسماليّ في العالم ونشأت في أكنافه ظاهرة الاستعمار. ولأنّ هذا النّظام نظامُ هيمنةٍ على العالم، فإنّ توطُّد أركان هذه الهيمنة وديمومتها تقضي، لدى هذا التّيار، بأن تُسخَّر التّبعيّة لِتُنْجِز وظيفةً لمصلحة سلطان هذا النّظام واستمراره. وليست وظيفةُ التّبعيّة أمراً يقتصر على إمداد النّظام الرّأسماليّ بموارد البلدان التّابعة لكي يبقى قويّاً وتظلّ هي في جملة أملاكه الإمبراطوريّة، فحسب، بل في أن يكون بقاؤُها شرطاً لإعادة إنتاج علاقة الهيمنة داخل هذا النّظام، لأنّ في كسر روابط التّبعيّة والتّحرُّر منها كسْراً لهيمنة رأسماليّة المراكز الميتروپوليّة في الوقت عينه. هكذا نجدنا - في إطار هذا المفهوم للتّبعيّة - أمام آليةِ عملٍ أو اشتغالٍ مزدوجة في علاقات الهيمنة بالتّبعيّة: تعيد الهيمنةُ إنتاجَ نفسها من طريق إعادة إنتاجها التّبعيّةَ، وتوفّر التّبعيّةُ لعمليّة الإنتاج تلك شرطَها الموضوعيّ كلّما تمسّكت البلدانُ الرّازحة فيها بالرّوابط التي تشدُّ اقتصاداتها إلى بنيات المراكز الرّأسماليّة الكبرى في العالم. في النّتيجة، ما من هيمنةٍ تُمْكِن ويُمكن إعادةُ إنتاجها من دون الحفاظ على علاقات التّبعيّة.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"