الأيديولوجيا.. والدولة المهزومة

00:38 صباحا
قراءة 4 دقائق

حسام ميرو

الأيديولوجيا بمعناها الذي نعرفه، هي حديثة نسبياً، ولدت في خضم الانتقال من عصر الإقطاع إلى عصر الصناعة، وتبلورت مع الحاجة إلى إنشاء الدولة الحديثة، أو للدقّة، الانتقال من الدول ذات الحكم المطلق إلى دول ينظمها الدستور، لكن هذه الولادة التي أتت على دفعات، رسمت حدّاً فاصلاً بين ماهية الأفكار والتصورات التي كانت سائدة قبل الصناعة وبين ما بعدها، خصوصاً فيما يتعلّق بنظرية الدولة، فقد أحدثت حالة انزياح في التنظير الفكري/ الاجتماعي لمسألة الدولة، وخصوصاً سؤال الماهية: ما الدولة؟
فصلت الأيديولوجيا بهذا المعنى الحديث نفسها عن التصورات الدينية والعقائدية، وارتبطت بالصراع في المجتمع، وبالتالي، انتمت الأيديولوجيا إلى العالم الوضعي، عالم البشر وإنتاجهم لوجودهم، والرؤى التي يتبنونها لمنح هذا الوجود معنى ما، يسعون إلى تكريسه، وتكريس أنفسهم من خلاله، وهذه العلاقة بين الأيديولويجا والبشر هي علاقة متحركة، وليست ثابتة، كما في العلاقة مع الفكرة الدينية والعقائدية، لأنها خاضعة ومنفعلة بالواقع الذي تتحرك فيه، وتتبادل معه الفعل وردّ الفعل.
في القرنين التاسع عشر والعشرين، لعبت الأيديولوجيا دوراً فاعلاً في تاريخ الصراعات الأوروبية والعالمية، وخاضت الأمم حروبها تحت رايات أيديولوجية، كما في الحرب العالمية الثانية، وقادت الأيديولوجيا العالم إلى التقسيم بين شرق/ اشتراكي
وغرب/ رأسمالي، في الوقت الذي كان فيه منظرو الطرفين يغذون الصراع بالشحن الأيديولوجي، ليس فقط من أجل تبرير الصراع، بل كجزء من دينامية مطلوبة لاستمرار الصراع نفسه.
بهذا المعنى، فإن تاريخ الصراعات في القرنين الماضيين، ليس فقط تاريخ الحروب والمعارك وطاولات التفاوض والاتفاقيات، بل أيضاً تاريخ الصراع الأيديولوجي، في أوقات كانت فيها الدولة تعرّف نفسها، إلى جانب الجغرافيا والاقتصاد والتكنولوجيا والديموغرافيا، بالأيديولوجيا التي تتبناها، بل ربما كانت هذا الأيديولوجيا في وقت من الأوقات من الأهمية بمكان للأنظمة السياسية أكثر من أهمية الشعب الذي تحكمه.
لكن، في قلب الصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب، بقي في نهاية المطاف شيء اسمه الدولة، أو خصائص الدولة، وهو ما سمح لكثير من الدول أن تخرج من الحروب وتعيد بناء نفسها، أو تتفكك تحت تأثير الحرب، بما فيها الحرب الباردة، كما في تفكك الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينات القرن الماضي، أو في إعادة اليابان بناء قدراتها على الرغم من خسارتها الحرب.
في تجربة تفكك الدول أو نهوضها من ركام الحرب، كان هناك دور أساسي لليبرالية، فقد نهضت ألمانيا وإيطاليا واليابان من الدمار الذي لحق بها جرّاء الحرب، وتبنت نموذج الدولة الديمقراطية الحديثة، ذات الطابع الليبرالي اقتصادياً وسياسياً، واليوم تحتل ألمانيا المرتبة الثالثة عالمياً في الناتج القومي الإجمالي، تليها اليابان في المركز الرابع، وإيطاليا في المركز الثامن، وقد أجرت معظم القوى السياسية في هذه الدول تحوّلات في رؤيتها لمفهوم التنافس السياسي، وضرورة وجود حدود فاصلة بين أيديولوجيا الأحزاب والسياسات العامّة.
في عالمنا العربي، يبدو أن الثابت الوحيد ربما في علاقة شعوبنا بالأيديولوجيا هو أنها ولدت من خلال العلاقة
مع تجربة الاستعمار، وقد نشأت الأحزاب تحت وطأة هذه العلاقة المتوترة مع الدول الاستعمارية، فمن جهة، هناك الإعجاب بتاريخها وتقدمها، ومن جهة ثانية هناك نقمة على الطابع الاستعماري لها، لكن ما غاب وما زال في تجربة الأيديولجيا عربياً أنها تفتقد إلى مكونات وعناصر اللحظة التاريخية التي انبثقت فيها الأيديولوجيا، أي الصناعة، فمعظم الدول العربية، كانت، وربما لا يزال الجزء الأهم منها، ذات طابع اقتصادي/ إنتاجي ما دون صناعي، مع إرث طويل من تأثير العقائد والعادات والأعراف.
في العقد ونصف العقد الماضيين، عصف ما سمي ب«الربيع العربي» بعدد من دول منطقتنا، خصوصاً الدول التي تحكمها أنظمة عسكرية وأحزاب ذات طابع أيديولوجي قومي، وقد ذهب قسم من هذه الدول سريعاً إلى الاقتتال الداخلي، وتآكلت فيها مؤسسات الدولة، وانهارت مقومات السلم الأهلي، وقد بدا واضحاً مدى ضعف الأحزاب الحاكمة فيها، الأمر الذي يطرح عدداً من الأسئلة حول مدى تماسك البنى الأيديولوجية لأحزاب حكمت عقوداً من الزمن، ومدى إشكالية هذه الأيديولوجيات، وعدم التطابق بين ما كانت تزعمه النخب الحاكمة أيديولوجياً وواقع ممارستها الفعلي.
سيظهر جلياً في تجارب الدول العربية التي شهدت حروباً أهلية، أن الطابع الحديث للدولة كان مأزوماً، وأن ما كان موجوداً إلى حد كبير هو دولة مهزومة، وأن رحيل الأنظمة، لم يكشف فقط عن مدى ضعف الدولة، بل كشف عن تدني مستوى الأيديولوجيا في الواقع، والذي ربما ينبغي تسميته أيديولوجيا ما دون الأيديولوجيا، أي مجرد رؤى عقائدية غير متماسكة، ليس باستطاعتها بناء منظومة أيديولوجية متماسكة بالمعنى الحديث، كما ليس باستطاعتها أن تعيد بناء الدولة، وأن أكثر ما يمكن أن تقوم به هو إدارة الفراغ في الدولة.
وإذا كانت الدولة الحديثة، بحسب توصيف المفكر المغربي عبد الله العروي هي «مؤسسات وخدمات مع القليل من الأيديولوجيا»، فإن الدول المنهارة في العالم العربي كانت قائمة وفق معادلة: الكثير من الأيديولوجيا والقليل من المؤسسات والخدمات.

[email protected]

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"