اغتيال الشجر الفلسطيني

00:59 صباحا
قراءة 3 دقائق

نبيل سالم

الحديث عن حجم الخسائر التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في صراعه مع الاحتلال الإسرائيلي، حديث طويل، حيث قدم هذا الشعب مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية الهائلة، ورغم أنها تبدو فاتورة ثقيلة، فإن أحداً لا يستطيع إنكار الحقيقة التاريخية الدامغة، وهي أن الشعوب لا تنال حريتها وكرامتها إلا بثمنٍ غالٍ من التضحيات، وهو ما أدركه الشعب الفلسطيني منذ بدايات المشروع الإسرائيلي الاستعماري في وطنه، الذي يسعى إلى إغلاق كل منافذ الحياة أمامه، مستهدفاً البشر والشجر والمياه، وكل ما على سطح الأرض أو حتى في باطنها، في توحش همجي لم يشهد له التاريخ مثيلاً.
ولعل ما يلفت الانتباه في الحرب الوحشية التي تشنها قوات الاحتلال على قطاع غزة أو الضفة الغربية، هي سياسة تجريف الأراضي الزراعية التي تعتمدها بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكأنما تريد الانتقام حتى من الشجرة الفلسطينية، بل وحتى من أصغر نبتة في الأرض.
وحسب أحدث تقييم جغرافي أجرته منظمة الفاو ومركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول 2024، فقد دمرت إسرائيل 75 في المئة من الحقول التي كانت تستخدم في السابق لزراعة المحاصيل وبساتين أشجار الزيتون في قطاع غزة، وأن حوالي 70 في المئة من الأراضي الزراعية في القطاع، أي ما يعادل 103 كلم مربع، تضررت من جراء الحرب، ناهيك عن الدمار الذي لحق بالأصول الزراعية، بما في ذلك أنظمة ري ومزارع وبساتين وآلات ومرافق تخزين، والتي تضررت بنسبة 80 في المئة و96 في المئة، وفق الأمم المتحدة، فيما وصلت خسائر الثروة الحيوانية إلى 96 في المئة، وتوقف إنتاج الحليب تقريباً، ولم يبق على قيد الحياة سوى واحد في المئة من الدواجن.
وإذا أضفنا إلى ذلك ما تتناقله الأنباء عن أن قطاع صيد الأسماك على وشك الانهيار، فإن هذا يؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنه بالتزامن مع حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال في قطاع غزة، تكبدت الزراعة في الضفة أيضاً خسائر بعشرات الملايين من الدولارات، حيث تشير معطيات وزارة الزراعة الفلسطينية إلى تضرر 8218 مزارعاً، في حين بلغت قيمة الأضرار الزراعية المباشرة حوالي 76 مليون دولار أمريكي، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وشملت هذه الأضرار حرق وتكسير واقتلاع أشجار الزيتون، ومنع المزارعين الفلسطينيين من الوصول إلى حقولهم، واستهداف مصادر المياه، وتجريف الأراضي والطرق الزراعية، وسرقة وقتل الأغنام.
أما في غزة، فيشكل القطاع الزراعي ركناً أساسياً وحيوياً ضمن مكونات الاقتصاد الفلسطيني، إذ يساهم بشكل ملموس في الناتج المحلي الإجمالي إلى جانب قطاعات إنتاجية أُخرى. ويتميز هذا القطاع بدوره الفعّال في تعزيز الاقتصاد الوطني، وفي توفير فرص العمل والمساهمة في التخفيف من وطأة البطالة.
وكشفت إحصاءات رسمية، أن خسائر القطاع الزراعي بعد عام من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بلغت 1,050 مليار دولار أمريكي.
وبحسب تقرير، صادر عن وزارة الزراعة الفلسطينية، فإن قطاع غزة يعتمد اعتماداً رئيسياً على القطاع الزراعي في توفير الغذاء لأكثر من 2.4 مليون إنسان يعيشون في جميع المحافظات، إلا أن تعطل هذا القطاع أثر سلباً في الحركة الاقتصادية من بيع وشراء وتربية، لا سيما في القطاع الحيواني والأسماك.
وهو ما يؤكد نية الاحتلال في مواصلة حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني وإن تعددت أشكالها، سواء بالقصف والتدمير أو بالمجاعة والحصار أو بتدمير المقدرات الزراعية.
والحقيقة أن من يتابع التاريخ الفلسطيني يكتشف أن جذور هذه السياسة بدأت مع قيام «إسرائيل»، فخلال فترة الحكم العسكري الأولى، الذي فُرض على الفلسطينيين الباقين تحت الاحتلال. دفع هؤلاء إلى حافة الجوع بعد أن صودرت منهم مقومات تأمين الغذاء لعائلاتهم. وهو المنطق الذي تجلّى اليوم بشكلٍ مكثّف في حرب الإبادة في قطاع غزة.
وهذه السياسة الإسرائيلية المدمرة للزراعة لم تأت مصادفة، أو مجرد انتقام فقط، وإنما عن عقيدة ووعي، فالحركة الصهيونية شجعت اليهود على الزراعة كوسيلة لتعزيز الارتباط بالأرض من خلال الزراعة، ولذلك فإن الاحتلال يعتقد أن تدمير الزراعة الفلسطينية يجب أن تكون جزءاً من حربه المفتوحة على الشعب الفلسطيني، لإضعاف ارتباطه بأرضه، وهو ما تفنده كل الوقائع على الأرض، فرغم كل الدمار والحصار الجائر يتمسك الفلسطيني بأرضه.
حيث أدرك هذا الشعب أن بقاءه لا يكون إلا بالبقاء في أرضه، وأن الزراعة، برغم الاستهداف المتعمد من قبل الاحتلال، هي جزء من معركة الهوية، فالأرض التي تُزرع تبقى حيّة، والأرض التي يهجرها أصحابها يعتريها الدمار والنسيان، وأن الاحتلال الذي يسعى لاغتيال كل مصادر الحياة الفلسطينية، لن يستطيع قهر إرادة الشعب الفلسطيني المتجذر في أرضه كزيتونه.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"