ريادة أمريكا في رأس مالها

22:13 مساء
قراءة 3 دقائق

جون زيتو*

في نقاشات السياسات اليوم، يتركز معظم الاهتمام على السلع، وكيفية فرض الضرائب عليها، وتداولها، وحمايتها. وتتصدر الرسوم الجمركية، وإعادة التصنيع إلى أمريكا، بالإضافة إلى سلاسل التوريد عناوين الأخبار. لكن المنافسة العالمية الأكثر أهمية قد لا تكون حول السلع إطلاقاً، بل حول رأس المال.
لطالما تبوأت الولايات المتحدة مركزاً محورياً في أسواق رأس المال العالمية، مع أدوار مهمة لعبتها على مدى ثمانية عقود. ولم تكتفِ بتصدير المنتجات، بل صدّرت نظاماً قائماً على الثقة والشفافية وسيادة القانون، وفكرة مكافأة الابتكار، وهو ما خلق مزايا هيكلية عميقة.
ومن هذه المزايا، أن الشركات المدرجة في الولايات المتحدة يتم تداول أسهمها باستمرار، مع علاوات تقييم تراوح بين 40% و70%، مقارنةً بنظيراتها العالمية. ليس فقط بسبب قوة الأرباح أو تنوع القطاعات، ولكن لأن رأس المال يثق أيضاً في هذا النظام. حيث يرى المستثمرون الولايات المتحدة أحد أكثر الأماكن استقراراً وقابلية للتوسع، وجدارة بالثقة لاستثمار أموالهم.
وتتجاوز فوائد هذه الهيمنة الأصول المالية بكثير، إذ تُسهم أمريكا في تعزيز الإنتاجية والابتكار، وخلق فرص العمل، ونمو الاقتصاد الحقيقي، كما أتاحت للدولار أن يكون عملة العالم الاحتياطية.
والآن، ومع دخولنا حقبة إعادة تنظيم اقتصادي وجيوسياسي، فمن الحكمة أن تُعامل الولايات المتحدة قيادتها لأسواق رأس المال كأصل استراتيجي، لأنه كلما طالت مدة مسار إعادة ضبط السياسة التجارية وزادت تقلباته، ارتفع حجم المخاطر على هذا النظام وفوائده.
وتُمثل أسواق الأسهم الأمريكية اليوم نحو 50% من القيمة السوقية للأسهم العالمية، ولا تزال أسواق السندات، التي تُقدر قيمتها بأكثر من 50 تريليون دولار، الأكثر سيولة وتطوراً تاريخياً. وهي موطن لسبعة من أكبر 10 شركات لإدارة الأصول في العالم، ونحو 60% من حجم رأس المال الاستثماري العالمي المُستثمر، منذ عام 2024. كما أنها جذبت استثمارات أجنبية مباشرة أكثر من أي دولة أخرى.
ولا بد أيضاً، من إبراز دور أسواق رأس المال الرائدة، التي تتجاوز أهميتها الأسواق العامة بكثير. فلطالما كانت الولايات المتحدة مركزاً لرأس المال الاستثماري، والأسهم الخاصة، وتكوين رأس المال المؤسسي، وتمويل الابتكار في مجالات التكنولوجيا، فضلاً عن الرعاية الصحية، والطاقة، وغيرها. علماً أن أسواق رأس المال الحيوية تُمكّن الدول من تمويل نموها وبنيتها التحتية الجديدة، وخلق المزيد من فرص العمل، بل حتى فرض العقوبات وحماية الأمن القومي بنجاح.
وعند هذه النقطة، تتكشف أمام الولايات المتحدة تحديات كبيرة من منافسين عالميين. فبينما تعمل مناطق مثل آسيا والشرق الأوسط على تعزيز أسواق رأس المال لديها، تبذل أوروبا، بحجمها الاقتصادي، وأسسها المؤسسية، وزخمها التنظيمي، مزيداً من الجهود لتحقيق تقدم ملموس في مسار التنمية ذات الصلة.
في المقابل، وبعد سنوات من التشرذم، من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والاختلافات الإقليمية، إلى تداخل اللوائح التنظيمية، تلوح في الأفق الآن فرصة لتحديث سوق رأس المال الأوروبي بشكل هادف. ومع وجود خطة طموحة لجمع 800 مليار يورو للدفاع على مدى أربع سنوات، وتجديد التوافق بين فرنسا وألمانيا، وتزايد الرغبة في الإصلاح، والإلحاح الناجم عن تقلبات السوق العالمية، يبدو أن هذا الطموح حقيقي، والعزيمة على التغيير واضحة. وتمتلك القارة العجوز أسلحة مهمة يمكنها استخدامها، لتدعيم مركزها منافساً أقوى في أسواق رأس المال. أولاً، تتمتع أوروبا بفرصة كبيرة لإصلاح نظامها المصرفي، من خلال تحويل 10 تريليونات دولار من الأصول المتقادمة إلى أسواق الائتمان الخاصة، ما سيحرر الميزانيات العمومية للبنوك ويدعم تكوين ائتمانات جديدة.
ثانياً، من خلال تكامل أسواق رأس المال تتعزز السيولة، وتتحسن التقييمات، وتصبح الإدراجات الأوروبية أكثر جاذبية، ما يساعد على سد فجوة التقييم مع الشركات الأمريكية. ثالثاً، يمكن أن يؤدي إحياء مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق، من خلال برامج الاستثمار العام والخاص إلى تحديث الأصول المادية وتعزيز ثقة الشركات.
رابعاً، سيرفع إصلاح أطر رأس المال اليورو إلى مستوى منافس موثوق به أمام الدولار، ما قد يوفر للمستثمرين مخزناً جذاباً للقيمة، وللبنوك المركزية العالمية ركيزة موثوقة لتخصيص الأموال على المدى الطويل.
هذه ليست أفكاراً مجردة، فهناك زخم واضح وراء الإصلاح الموجه نحو النمو في أوروبا. وإذا ما نُفذت بفعالية، يمكن لهذه الأفكار أن تجعل المنطقة وجهة أكثر جاذبية لتدفقات رأس المال العالمية.
على المقلب الآخر، لا يكمن خطر ذلك في تخلف الولايات المتحدة التدريجي عن الركب فحسب، بل في أن رأس المال سيبدأ بتسعير أمريكا كأي سوق أخرى. وإذا حدث ذلك، ستفقد البلاد ميزتها التنافسية وتأثيرها المضاعف، الذي ينعكس على التقييمات الأعلى، ورأس المال الأرخص، وتعويضات الأسهم الأقوى، والابتكار الأسرع.
* الرئيس المشارك لشركة «أبولو» لإدارة الأصول

عن الكاتب

الرئيس المشارك لشركة «أبولو» لإدارة الأصول

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"