ما بين الخليفة المأمون والسلطان المؤتمن

01:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

«عندما أكون في فرنسا أشعر وكأنني في قمة الدنيا».. تلك الكلمات سمعتها لأول مرة في كلمة لصاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، ضمن حفل أقيم في العاصمة الفرنسية باريس لتدشين أحد إصداراته المترجمة للغة الفرنسية في مارس من العام 2016، وأوضح حينها سموه بأنها كانت ضمن رسالة لسموه بعث بها إلى الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك وذيلها سموه بعبارة صديق فرنسا وتوقيعه.
ومن باريس التي يكن لها سموه الاحترام والتقدير يأتي التكريم الاستثنائي والمتفرد لمقام سموه الكريم، وعبر أرفع المنظمات الدولية الخادمة للفكر الإنساني منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، وكأول قائد عربي يكرم فيها منذ تأسيسها وذلك عن دوره الجلي في إنجاز وإتمام المعجم التاريخي للغة العربية، ولأنه السلطان المؤتمن على لغة الضاد وأهلها.
ما قام به صاحب السمو حاكم الشارقة في خدمة اللغة العربية لم يقتصر على إنجاز المعجم فحسب، بل قبل ذلك كانت هناك جهود كبيرة محلياً وإقليمياً ودولياً من خلال دعمه لجمعية اللغة العربية في الإمارات مادياً ومعنوياً وإقامة مجمع للغة العربية في الشارقة ودعم مجامع اللغة في أقطار الوطن العربي والتكفل بتشييد اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية ومقره جمهورية مصر العربية، إضافة إلى اعتنائه بالشعر كونه ديوان العرب وإقامة وتشييد بيوت الشعر في عواصم ومدن عربية عديدة.
جهد صاحب السمو حاكم الشارقة من أجل الاعتلاء باللغة العربية يجعلني أضعه في مقاربة منطقية رغم تباعد العصرين مع ما قام به الخليفة العباسي المأمون عندما قاد حركة الترجمة التي بدورها قادت إلى تحقيق النهضة العلمية، وقد منحت الترجمة اللغة العربية في ذاك الزمان مكانة مرموقة بين اللغات العالمية، بعد أن كانت محصورة في كتب وعلوم الدين والأدب لتصبح لغة أساسية في تعليم وانتشار العلوم التطبيقية والنظرية كالطب والتشريح والفلك والجبر والحساب والفلسفة وغيرها.
منظمة بحجم «اليونيسكو» لا تنظر إلى الفعل اللحظي للأفراد لكي تشرع بتكريمهم والإشادة بدورهم الفكري والإنساني بل تتبع سيرهم ومسيرتهم وما قدموا طوال سني عملهم وعطائهم، ولربما يكون مشروع المعجم التاريخي للغة العربية هو الدرة والجوهرة الأعظم التي زينت تاج أعمال وعطاء سموه في خدمة العلوم والثقافة والآداب ولكن دون أدنى شك بأن مسيرة سموه مملوءة بالعطاءات المتوافقة مع السياسة العملية والعلمية لليونسكو.
أستذكر هنا موقفاً وكلمات لسموه غاية في الأهمية ستجدون بأنه حقاً يستحق أن يكون المؤتمن ليس فقط على لغتنا العربية بل على تاريخ وتراث وهوية الأمة ففي يناير من العام 2015 التقى صاحب السمو بالشعراء والأدباء المشاركين في الدورة 13 من مهرجان الشارقة للشعر العربي في دارة الدكتور سلطان بن محمد القاسمي للدراسات الخليجية - في مقرها الأول - قال سموه حينها: «اليوم أنا أقدم الشارقة كحاضنة للثقافة والتراث الثقافي فنحن أمة مهددة في كل الأقطار والشارقة عملت على احتضان كثير من ثقافات الشعوب إلى أن يأتي زمن ويرجع كل شي لأهله فما نتلمسه من جهود الشارقة في خدمة الثقافة ليس من أجلها فقط فما هي إلا قرية صغيرة في عالم كبير ولكننا عملنا على أن نكون الركن الذي يلتجأ إليه الأدباء والمثقفون إذا ما شعروا بأنهم ملغيون من المجتمع فليأتوا إلينا ليجدوا أنفسهم ولا نريد منهم أن يفعلوا الثقافة لنا فحسب بل عليهم أن يفعلوها للوطن العربي ككل ومن خلالنا».
أراد المؤتمن القاسمي من الشارقة أن تكون كما بغداد في عصر المأمون العباسي منتهى وغاية ومقصد كل عالم ومحدث وفقيه وطالب علم ومهندس وطبيب وشاعر وأديب وفنان ومبدع في مختلف ضروب الفن والهوايات والمهارات، وبذلك استحق العصر الذي شهد مثل ذلك الانبلاج الفكري والانفتاح المعرفي أن يوصف بكونه ذهبياً، وها هو المجد يعود من جديد والذهب يزداد بريقاً.
تكريم صاحب السمو حاكم الشارقة فخر لكل عربي، فهو من قاد لأن يوضع هذا السفر التاريخي اللغوي العظيم وبشكل رسمي ضمن مقتنيات أكبر مكتبة أرشيفية في منظمة دولية تعنى بالثقافة والعلم والتربية «اليونسكو»، إقراراً منهم بمدى أهمية هذا المنتج للإنسانية جمعاء، وقاد كذلك لأن يتفضل سموه بالتكفل بإتمام مشروع رقمنة مكتبة أرشيف «اليونسكو» وبشكل كامل والتي كانت قبل مكرمة سموه لم ينجز منها سوى 5%، وستسهم هذه المكرمة في تمكين الباحثين والمطالعين والمهتمين من الوصول إلى تلك الكنوز المعرفية بشكل يسير وسريع.
العلم ونشره والبحث العلمي ودعمه والثقافة والنهوض بها والهوية وحمايتها عوامل مشتركة جمعت ما بين الخليفة المأمون والسلطان المؤتمن.

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"