الشارقة - عثمان حسن
تظل تجربة التركي حامد الآمدي محل دراسة وتأمل معظم الخطاطين، فالآمدي بما عرف عنه من عبقرية وبراعة وموهبة، يستحق أن يظل حاضراً، لا سيما أنه قدّم في حياته أروع الأعمال، وقد شهد الجميع على عبقريته، التي لا تزال إلى اليوم محل قراءة وتمعّن عند معظم ممتهني هذا الفن الأصيل.
لدينا لوحة بالخط الثلث الجلي لحامد الآمدي بعنوان (قال النبي عليه السلام: خير الناس من ينفع الناس)، وهي من اللوحات الشهيرة للخطاط الآمدي، التي يُظهر من خلالها براعة فائقة تليق بسمعته في هذا النوع من الخطوط، والحديث الذي بين أيدينا يفيد بأن أكثر من ينتفع الناس بهم، وهم بالضرورة من يحبهم جلّ وعلا، هم الذين ينفعون الناس، نفعاً لا يقتصر على الجانب المادي فقط، بل هو نفع يطال الرأي والمشورة الصالحة وكل ما يقرب إلى الخالق عزّ وجل.

تكوين
حافظ الآمدي، في هذه اللوحة على ميزات خط الثلث الجلي من حيث الانحناءات القوية والمتداخلة في بعض حروفه، كما يظهر في الكلمات (خير) و(ينفع) و(الناس)، وهذه سمة مميزة للثلث، حيث ميل الحروف إلى الانسيابية والمرونة، وكان عند الآمدي اهتمام لافت بالحروف المتطاولة والرأسية مثل الألف واللام خاصة في كلمة (الناس)، فبرز الحرفان بشكل عمودي بطريقة فنية جميلة ولافتة، ظهر هذا من خلال تكرار كلمة الناس في يمين ويسار اللوحة.
يمكن التوقف كذلك عند خاصية التناسق والتماثل، فاللوحة أظهرت براعة الآمدي في التكوين؛ حيث تظهر (خير الناس) في يمين اللوحة لتقابل (من ينفع الناس) على اليسار مع توازن بصري جميل.
وقد كان هناك اعتناء كبير من الآمدي بكتابة الحروف على هيئتها في الثلث، كما يظهر في حرف السين المتموجة والمفتوحة، وكما يظهر في حرف النون في حرف (من) التي وصلت بين جزئي اللوحة يمينها ويسارها، ونزلت مع انحناءة بشكل مائل، بحيث بدا ذيل النون ممتداً إلى الأسفل، ويظهر ذلك أيضاً في تقوّس حرف العين التي جاءت مفتوحة بشكل واضح خاصة في كلمة (ينفع).
يمكن الوقوف في هذه اللوحة الأخاذة عند التركيب الهندسي، وهو الذي يظهر في تشابكات أو تقاطعات كثير من الحروف، والتركيب كما التكوين هو خاصية من مميزات الثلث والثلث الجلي، مما يمنح اللوحة قابلية واسعة للتشكيل والتنويع والإبداع.
ويمكن التوقف أيضاً عند ما يمكن تسميته (التوازن البصري) على جانبي اللوحة، فجزء اللوحة الأيمن يناظر جزأها الأيسر من حيث الكتلة والحجم، فثمة ارتفاع واحد من اليمين واليسار، يتجلى في عرض وطول الكتلتين وتطابقهما إلى حد بعيد برغم اختلاف الحروف على الجانبين.
الوظيفة والغرض
بشكل عام، فقد حققت اللوحة في حروفها العريضة والواضحة، ما سهل على القارئ قراءتها بكل سهولة ويسر، كما حققت اللوحة في منظورها العام بعداً فنياً وجاذبية بصرية، ناهيك عن تلك القيمة الروحية التي تفيض من عبق الكلمات، والتي حققت أيضاً الشرط الوظيفي من هذا الحديث الشريف الذي يفيض بكل معاني ودلالات الخير والحب المشار إليها سابقاً.
يمكن الإشارة أيضاً إلى التشكيل الزخرفي الذي أضاف بعداً جمالياً وبصرياً للوحة حيث قام الآمدي بتأطير هذا الحديث بزخرفة نباتية مشرقة الألوان من جوانب النص في طول اللوحة وعرضها، كما يمكن الإشارة إلى الأشكال الزخرفية على شكل حروف صغيرة التي ملأت جوانب النص من الفتحة والكسرة والشدة والضم والسكون.
إضاءة
ولد حامد الآمدي عام 1891م في مدينة ديار بكر في تركيا، وتوفي في عام 1982، عرف قديماً باسم «آمد»، كما يظهر في توقيعاته القديمة على اللوحات، شغف بفن الخط منذ طفولته، وتلقاه على أيدي جهابذة الخط التركي مثل: كامل أفندي، وحقي بك، وخلوصي أفندي وغيرهم، غير أنه استطاع أن يطوّر في هذا الفن بما تمتع به من قوة الملاحظة، ويظهر ذلك في كتابته المدهشة كتابة الطغراء، وقد أتقن جميع الخطوط بلا استثناء بما تميز به من عين بصرية فذة، وقد فرض نفسه على أساتذة الخط في إسطنبول، وقد نسخ المصحف الشريف مرتين بخط يده في خط وصف بأجمل الخطوط من ليونة الكتابة التي تقارب في أسلوبها ليونة خط النسخ عند الخطاط الشهير الحافظ عثمان. بلغت شهرة حامد الآفاق، فتهافت عليه طلابه من دول عديدة ليتتلمذوا على يديه ويأخذوا عنه.