رضا السميحيين
جسد عنوان «بينالي الشارقة» (رحالنا) في دورته السادسة عشرة، محاولة حقيقة لفهم هشاشتنا في المساحات التي ليست لنا أو لا ننتمي إليها، تفتح فيه هذه «الثيمة» أبواباً واسعة للتأمل والمشاركة في عالم متغير، حيث أصبحت مفاهيم الهجرة، والانتماء، والهوية، والثقافة المحمولة من جغرافيا إلى أخرى، جزءاً من يوميات البشرية في القرن الحادي والعشرين.
جاء عنوان الدورة ليشكل مفتاحا لرؤية إنسانية عميقة، تتقصى الأسئلة المعلقة في حقائب الترحال الإنساني، في مشهد ثقافي اختار أن يخاطب الإنسان قبل الفنان، وأن يستدعي ما في الداخل قبل الخارج، يتوقف فيه الزائر عند هذه المفردة ليكتشف أنه جزء من المشهد، ليس متأملاً فقط، وإنما حامل كذلك لمجموعة من الأفكار والرؤى الإنسانية، وكأنه يحمل تاريخه، ولغته، وانتماءه، كما يحمل ارتباكه، وقلقه، ويحمل ما فاته وما ينتظره، وما لم يتجرأ على مواجهته.
يمكن القول: إن هذه الدورة استطاعت أن تصوغ «هوية مكانية» تتجاوز جغرافيا العرض، حيث تحولت المواقع إلى امتداد للمعنى السردي العميق، سواء كان مصنع ثلج قديم في كلباء، أو سوقاً مركزياً، وحتى الصحراء الساكنة في الذيد، تحولت جميعها إلى ذاكرة بصرية وجغرافيا ثقافية بحد ذاتها، وهنا مكمن تميز مؤسسة الشارقة للفنون في إدراك أن الفن لا يجب أن يعزل عن المكان، بل أن يتغذى من تربته، ويقدم فلسفته على إيقاع ناسه.
وهنا تأتي المعلومة المفصلية، حيث إن أكثر من 200 فنان من حول العالم شاركوا بما يقارب ال650 عملاً فنياً، جرى إنتاج أكثر من 200 من أعمال هؤلاء الفنانين في تكليف جديد مخصص لهذه الدورة من بينالي الشارقة للفنون، وعرضت هذه الأعمال الفنية، في 17 موقعاً مختلفاً عبر الإمارة، تجاوزت فيه فكرة التنظيم التقني، لتغدو فعلاً ثقافياً يثبت أن مدينة الشارقة هي ورشة لصناعة المعنى في خرائط الفن العالمي، وبيتاً مفتوحاً للفن المعاصر من منظور عالمي وإنساني.
ما يثير الدهشة حقاً في هذا البينالي وكشاهد لمجمل ما فيه من أفكار ورؤى فنية، هو هذا التطور في اللغة الفنية التي يبنى بها المعرض في كل دورة، فقد أصبح «بينالي الشارقة»، ومنذ عقدين مضت منصة ذات هوية خاصة لا تشبه غيرها، حيث لم يعد المضمون محصوراً في الجماليات الشكلية أو المفاهيمية الصارمة، بل أصبح أقرب إلى الشعر، إلى ما يشبه الحكاية المفتوحة، وكان في هذه الدورة تحديداً ميل واضح نحو مفاهيم الفن الذي يهمس، والذي يواجه صخب العالم المعاصر بالصمت التأملي، بالحنين المهذب، وبالأسئلة لا الأجوبة.
الدورة السادسة عشرة من البينالي هي بحق دورة عبرت عن مرحلة ناضجة من مسيرة مؤسسة الشارقة للفنون، تقول فيه الإمارة كلمتها في مشهد فني عالمي، مشهد أسست فيه لخطاب جديد، خطاب الفن المسافر، المتأمل، المحمل بالتجربة الشخصية والكونية في آن معاً، ربما كان أجمل ما فيها، هو تلك القدرة الاستثنائية على استدعاء الحواس، من خلال نداء خافت يشبه صوت الريح حين تمر على خيمة في الصحراء، أو استدعاء الصمت، وربما البوح النابش في دفاتر الذكريات، فالفن هنا لا يقدم بصيغة الجواب، بل بصيغة السؤال، إلى أين نمضي؟ وماذا يعني أن نكون؟ وما الذي يتبقى منا بعد الرحيل؟.
وبينما يطوي البينالي فصوله، تبقى التجربة مفتوحة للتأمل، لأن الفن الذي يصنع الأثر لا يطوى، بل يستمر فينا، يتشكل في وعينا، ويرحل معنا.. «رحالنا» لحظة ثقافية شاملة، تجعلك تسأل عن حقيبتك ليس التي تحملها، بل تلك التي تحملك.