د.صلاح الغول
يثير الهجوم الإسرائيلي على إيران منذ 13 يونيو/حزيران الجاري ثلاث مسائل إشكالية، تتعلق أولاها بمدى توافق الحرب الاستباقية مع مبدأ الدفاع الشرعي عن النفس، وتتصل ثانيتها بإشكالية التنبؤ في العلاقات الدولية، فيما ترتبط الثالثة بأهمية الاستخبارات في الحروب.
ولنبدأ بإشكالية التمييز بين الحرب الاستباقية والحرب الوقائية، ومدى توافقهما مع مبدأ الدفاع عن النفس، وهو المبدأ الذي يُجيز للدول استخدام القوة العسكرية ضد أخرى، طبقاً لميثاق الأمم المتحدة (المادة 51).
فقد كيفت الحكومة الإسرائيلية هجماتها على المنشآت النووية ومواقع برنامج الصواريخ البالستية على أنها ضربات استباقية للدفاع عن نفسها ضد التهديد الإيراني لأمن إسرائيل (بل لوجودها ذاته). ومن ثم، وفقاً للرواية الإسرائيلية، فقد كانت هذه الهجمات ممارسة لحق الدفاع عن النفس الذي يكفله القانون الدولي. وقد تماهى الموقف الأمريكي والموقف الأوروبي (الجماعي والفردي) مع الرواية الإسرائيلية.
والواقع أنّ الرواية الإسرائيلية، والمواقف المتماهية معها، تتضمن تناقضاً أساسياً، يتعلق بالتناقض بين فكرة الحرب الاستباقية وحق الدفاع الشرعي عن النفس الذي يشترط وجود «تهديد حال». والحرب أو الضربات الاستباقية لا يسبقها، بالتعريف، وجود أية حالة من حالات «التهديد الحال». بالمقابل، فإن الحرب الوقائية هي التي تكون إعمالاً لمبدأ الدفاع الشرعي عن النفس، لأنه يسبقها «تهديد حال» لحدود الدولة أو مواطنيها ومؤسساتها أو تكاملها الإقليمي من جانب دولةٍ أخرى.
وفي شأن الهجوم الإسرائيلي على إيران، لم يكن هناك تهديد حال من جانب إيران لإسرائيل، فالأولى لم تحشد قواتها أو تعلن التعبئة العامة لمهاجمة الثانية، بل كل الظروف كانت تسير في اتجاه تسوية مشكلة الملف النووي الإيراني عن طريق المفاوضات التي كانت مجدولة جولتها السادسة في 15 يونيو/حزيران، وفقاً للتصريحات المتفائلة للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، نفسه. ثم إن إيران، وبرغم التقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي أشار إلى تسريع إيران وتيرة تخصيب اليورانيوم ومواصلتها رفض الامتثال لشروط الوكالة للرقابة على برنامجها، لا تمتلك قدرات عسكرية نووية، وإنما إسرائيل هي التي تحوزها.
وهكذا، فإنّ أي ادعاء بأنّ الهجوم الإسرائيلي مشروع، لأنه ينطلق من مبدأ الدفاع الشرعي عن النفس، لا محل له. وقد أحسن مجلس التعاون الخليجي صنعاً بتأكيده على أنّ الهجوم الإسرائيلي، الذّي أدانه، مخالف للقانون الدولي، وبأنه «عدوان» يستحق أن يشرع المجتمع الدولي، ممثلاً في مجلس الأمن، باتخاذ الإجراءات المطلوبة لوقفه.
كما يثير الهجوم الإسرائيلي على إيران مسألة التنبؤ في العلاقات الدولية. فالواقع أنه منذ بدء المفاوضات النووية الأمريكية-الإيرانية في إبريل المنصرم، اعتقد جُل، إنْ لم يكن كل دارسي العلاقات الدولية أن احتمالات حصول ضربة عسكرية إسرائيلية أو أمريكية أو إسرائيلية-أمريكية مشتركة ضد البرنامج النووي الإيراني تضاءلت إلى حدٍ كبير. ثم جاءت زيارة ترامب للمنطقة في مايو/أيار المنصرم، وما أبداه من تفاؤل بإمكانية التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، وما سمعه من مضيفيه قادة دول مجلس التعاون من ضرورة خفض التصعيد في المنطقة... كل ذلك عزز اعتقاد الدارسين بتضاؤل إمكانية استهداف المنشآت النووية الإيرانية. ولكن حصول الهجوم الإسرائيلي يلفت نظر محللي السياسة الدولية إلى ضرورة متابعة الظواهر التي تشكل انحرافاً عن المألوف، ولو كانت صغيرة، مثل ما بدا من جفوة بين ترامب ونتنياهو، التي كانت وفقاً للصحف الإسرائيلية، جزءاً من مسرحية لتضليل إيران وصرف انتباهها عن الهجوم الإسرائيلي قيد التشكل.
المسألة الثالثة التي يثيرها الهجوم الإسرائيلي هي قوة المجتمع الاستخباراتي الإسرائيلي من ناحية، والانكشاف الإيراني من ناحية أخرى. وكان مصرع معظم قيادات الصف الأول في المؤسسة العسكرية والحرس الثوري، واغتيال عدد كبير من العلماء النوويين الإيرانيين، وتجنيد الجواسيس وإقامة قواعد لهم، ومن ثم تنفيذ عمليات مستترة ضد منصات إطلاق الصواريخ داخل إيران.. كلها دلائل على الانكشاف الإيراني وقوة الموساد الإسرائيلي. وقد نشأ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي قبل قيام دولة إسرائيل، واستثمرت فيه الأخيرة بشكل كبير، حيث تعتبر الميزانية المخصصة له الثانية عالمياً بعد مخصصات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA). ووفقاً لصحيفة «وول ستريت جورنال»، كان الموساد يستعد لسنوات للهجوم الكبير الذي شنته إسرائيل على إيران في 13 يونيو/حزيران الجاري. وكان يعرف مواقع تخزين الصواريخ الإيرانية، والمكان الذي يحتاج إلى تمركزه على الأرض لمهاجمتها. وفي هذا الصدد، أشارت الصحيفة إلى عملية أمنية نفذها الموساد داخل إيران، وأدت إلى إحباط وتعطيل الرد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي لساعات، عن طريق تهريب أجزاء الطائرات المسيرة التي استخدمت في مهاجمة منصات إطلاق الصواريخ البالستية والشاحنات التي تنقلها ومنظومات الدفاع الجوي، بالتزامن مع الهجوم الجوي الإسرائيلي. ولعل ذلك يذكرنا بعملية شبكة العنكبوت الأوكرانية في الأول من يونيو/حزيران الجاري، حيث استخدمت كييف 117 طائرة مسيرة، تم تهريب أجزائها إلى روسيا ومن ثم تجميعها هناك، في ضربة منسقة شاملة ضد خمس قواعد جوية روسية رئيسية، أفضت إلى تدمير أو تعطيل 41 طائرة حربية، بما في ذلك بعض من أهم القاذفات الاستراتيجية وطائرات الاستطلاع في روسيا.