عادي

عزالدين عناية: الإسلام السياسي عملاق من صلصال

05:02 صباحا
قراءة 7 دقائق
حوار: إبراهيم السخاوي
لم يكن سفر المفكر التونسي عز الدين عناية من الزيتونة إلى روما انتقالاً عادياً أو ترحالاً كما الغير، بل كان سفراً فكرياً، خرج فيه من نطاق المحدود إلى عالم منفتح من الرؤى والتساؤلات ومحاولات الإجابة، فكم من الوقت . . وكم من الحيرة اجتاحت هذا الشاب العربي . . ليقف في مفترق طرق حياتية وفكرية، ويسأل عن هذا العالم الذي غادره وذلك المقبل عليه، هنا كان السؤال الأول . . سؤال الهوية، ومعه مساحات من التوقف والتأمل والتفكير . عن الكم الهائل من الأسئلة دار في ذهن هذا العربي الأستاذ في جامعتي "لاسابيينسا في روما والأورينتالي في نابولي"، نتحاور معه، وحول رحلته الفكرية وانتقاله الذي نطرحه في صورة عنوان "من لاهوت التحريم إلى لاهوت التحرير" .
هل يصلح لاهوت التحرير على الأرضية العربية الإسلامية . . وهنا نتحدث عن اختلاف البيئة أم اختلاف الدين؟
- حين بدأ الأستاذ حسن حنفي في مطلع الثمانينات من القرن الماضي بالتنظير لمسألة اليسار الإسلامي، وجدت أطروحاته صدى طيباً في تونس، لاسيما في أوساط مجموعة (21/15) ذات المنحى الإسلامي التقدمي . وهو بالفعل استنساخ لنموذج أمريكا اللاتينية، على اعتبار أن البؤس الاجتماعي متفشّ في العديد من الأوساط لدينا . كما سعت تلك المجموعة في الآن نفسه إلى ردم الهوة الفاصلة بين الفكر الحداثي العلماني والفكر الديني، من خلال طروحات نقدية ومراجعات . وكانت واعية بأن تراثاً من اللامعقول جاثم على العقل الديني لدينا . وأن المسائل الاجتماعية والاقتصادية والنقابية طارئة على العقلية الدينية، وحري التنبه إليها .
لكن ذلك الخط التقدمي في تونس ممثلاً في الأستاذين حميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي، وهو عبارة عن شكل من لاهوت التحرير الإسلامي، أُجبر على الصمت . وانهمكت السلطة - سلطة السابع من نوفمبر- في ما عُرف بسياسة تجفيف المنابع، التي أهلكت الزرع والضرع . ولذلك العنف المتلبس بالدين الموجود اليوم في تونس هو عنف متخلّد وليس عنفاً ناشئاً جراء الثورة كما يروج .
ومن منظوري الشخصي أومن أن لكل مكان عبقريته في التعاطي مع أوضاعه، ولكل دين "موسيقاه" في التغيير الحضاري، ولستُ ممن يرون توريد الأنماط الدينية على غرار ما يقول به البعض: نحن في حاجة إلى "بروتستانتية إسلامية" أو إلى "لاهوت تحرير إسلامي"، أو إلى "أحزاب ديمقراطية إسلامية" على غرار "أحزاب الديمقراطية المسيحية" . مآزق الشعوب لا تحل باستيراد الحلول بل بإبداعها، والشعوب التي لا تبدع من داخلها سُبل قيامها فبشّرها بالزوال . ولا يعني ذلك الانغلاق، بل توظيف الوعي بالآخرين لإثراء الذات لا لتدمير قدراتها .
ثمة ثورات وحركات خروجية في تاريخ الإسلام -الزنج، القرامطة، الخوارج- كيف يمكن قراءتها الآن في ضوء المتغيرات على ساحة الإسلام السياسي؟
- الإسلام السياسي العربي هو حركة سياسية وليس حركة فكرية، لذلك ما يناهز القرن من الحضور وهو يراوح في المكان نفسه . فهو عملاق من صلصال، قادر على الحشد وعلى التهييج وعلى الدفع بالناس في مسارات حالمة، ولكنه عاجز عن تحوير البنى العقلية للشعوب أو إنقاذها مما ترزح فيه . فالإسلام السياسي لم يُعِدْ قراءة التاريخ الإسلامي، ولم يُعدْ حتى قراءة العلوم الإسلامية التي هي أقرب إليه، على غرار علوم الحديث والقرآن والفقه وأصوله والمواريث وما شابهها . وبالتالي فالإسلام السياسي هو خط يميني اتباعي (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) . وحركات الزنج والقرامطة والخوارج -وفق منظوره- هي حركات بغاة وخوارج، عن نسق أهل السنة والجماعة، لا كما نعتموها خروجية .
في إطار تشابه الصراع بين الطوائف المختلفة داخل الدين الواحد . . وفي إطار لاهوت التحرير ولاهوت التحريم . . كيف ترى الصراع بين البروتستانت والكاثوليك وبين السنة والشيعة . . ما أوجه الشبه والاختلاف؟
- إن كان ثمة قاسم مشترك بين الصراعين، لدى طرفي النزاع في كلا الدينين، فهو السعي للفوز بالمشروعية . لكن الصراعين مختلفان مبنى ومعنى . يأتي الحراك داخل فضاء ديني واجتماعي لا تتشابه فيه الطروحات ولا الوسائل . الصراع السني - الشيعي اليوم يعبّر عن أقصى درجات اغتراب العقل الديني لدينا، عن ورطة العقل الإسلامي في وحل السياسة جراء تدني الرشد، وذلك من خلال استحضار عناصر صراع لا تمت للواقع بصلة وإعادة استثمارها مجدداً في الراهن . لا أقول إن اللاوعي الجمعي العربي، بالمفهوم اليونغي، هو المتحكم بالراهن، ولكن هناك أمّية دينية تدعمها صبيانية عقلية ندفع ضريبتهما .
الصراع بين البروتستانت والكاثوليك -برغم وجهه العنيف في مراحله الأولى- ولّد رؤى جديدة في الدين والحياة . أفرز "الإصلاح" و"الإصلاح المضاد" وما تمخض عنهما من تحريك للواقع الفكري والديني في الغرب . وإن كان هناك من درس لذلك في الواقع الإسلامي فهو أن نخرُج من الصراع العنيف بين السنة والشيعة، لأنه مدمر لكلا الطرفين ومن ثمة للإسلام، إلى التنافس الثقافي والمعرفي .
طوال مرحلة دراستي في جامعة الزيتونة كان كل ما يمت للتشيع غائباً فقهاً وتاريخاً وتفسيراً، وإن حضر فبوجهه السلبي، ولكن حين انتقلتُ إلى الجامعة البابوية الجريجورية في روما كنت أدرس ضمن المقرر الدراسي تاريخ الإصلاح البروتستانتي ومنظوره الديني والفلسفي للكتاب المقدس وغيرها من المقررات، هذا هو الفارق بيننا وبينهم في التعاطي مع المنافس والخصم .
هل ترى أن غياب الحداثة وأمراض المتدينين وأزمة الهوية ونشوء الأصوليات والاستبداد والفساد وغياب العدل والحريات وراء ظهور الوحش الإرهابي أم هناك أسباب أخرى؟
- بدءاً لا يُرجى من حقل اجتماعي فاسد ومفسِد أن يكون مصدراً لصنع الأمن . ولكن لِنَعد إلى مسألة الدين والعنف التي باتت مهيمنة في الأوساط العربية . يورد الإيطالي إنزو باتشي في مؤلفه "علم الاجتماع الديني" أن العنف المشوب بالقداسة يأتي تحت ضربين: إزهاق لأرواح الآخرين وإزهاق للذات، أي القضاء المبرم على من لا ينتمي للتنظيم الديني أو كذلك إماتة من ينتمي للتنظيم . ففي الحالة الأولى نحن أمام أنواع الأصوليات العنيفة، التي تقترف العنف لفرض مبدأ ديني، تقدّر أنه مهدد من عدوّ خارجي؛ وفي الحالة الثانية ندنو من حالة التحمّس للاسشهاد الفردي والجماعي .
وفي كلتا الحالتين يرتهن الالتجاء إلى العنف، ليس إلى حوافز ذات طابع إيديولوجي، متولّدة عن رؤية لاهوتية مميزة للعالم فحسب، بل أيضا إلى قاعدة تنظيمية أن قتل الذات أو الآخرين، له وظيفة تمتين اللّحمة داخل جماعة الانتماء . فليس اقتراف العنف نحو الآخرين أو نحو الذات عملاً عفوياً، بل يأتي جراء انقلاب ديني عميق، ينضُجُ في أعقابه اختيار طوعي للقيام بفعل القتل . وأمام هذا الاختيار ينغمس المؤمن، فرداً كان أم جماعة، في عالم رمزي . فحين يدّعي تشكيل اجتماعي ديني أنّه الطريق الوحيد والأوحد للخلاص، والقابض على ناصية الحقيقة المطلقة مقابل عالم خارجي يُعدّ بمثابة مملكة الشرّ، والتهديد الخطر للطهر والحقّ، الذي يتصور حيازته، فإن تطوّر احتمالات تفجّر بذور العنف تصير عالية .
كيف تحولت جوانية الدين العلاقة بين العبد وخالقه إلى برانية العمل خارج هذه العلاقة أي خروج الدين والعلاقة ذات الخصوصية إلى الشأن العام السياسي؟
- أن تنزاح العلاقة بالدين من نمط إلى آخر ليس انحرافاً بالدين وليس تشويهاً له، فالدين فيه من الثراء الدلالي ما لا نجده في ظواهر اجتماعية أخرى . ولكن المسألة اليوم في توهم أن المدخل السياسي هو جوهر الدين ومنتهاه، وهو موجة ستنقضي بعد أن تخلّف ضحايا وهدراً للوقت .
قد يتصور البعض أن الدين في أصله هو علاقة فردية بعالم علوي أو بكائن مطلق، وأن إخراجه من ذلك الطابع هو انحراف بمساره . والحال أن الدين كواقعة اجتماعية هو كل متداخل، فيه بعدٌ باطني وبعدٌ حياتي معيشي . وبقدر ما يجرّب الإنسان من انسجام ولذة وسكينة في أدائه للشعائر نحو بارئه، يجد في علاقته بنظرائه من البشر، وفي نشاطه الاجتماعي، المشوب بطابع الدين الإشباع نفسه . ولذلك كان فعل الخير والإحسان لدى المؤمن يضاهي عبادته لربه من حيث ما يجده من رضا وزهو .
داخل هذه الثنائية التي عادة ما تطرح، بين جوانية الدين وبرانيته، غالباً ما تتخفى المقاصد الأساسية . فهناك سعي لحصر الدين في نطاق محدد لاحتكار المجال الآخر النقيض والمقابل .
هنا نطرح إشكالية الخاص والعام . . كيف يمكن تخصيص الدين وهو الشأن العام بشكل طائفي لتدّعي مثلاً جماعة "الإخوان" احتكارها واعتبار نفسها الممثل الشرعي للدين في السلطة؟
الإسلام مستأمَن عليه لدى جمهور المسلمين وليس لدى حركة بعينها . فالتشكيلات الاجتماعية مهما اصطبغت بطابع القداسة فهي ناشئة وعابرة وزائلة . وكلما حرصت الحركات على احتكار الشرعية لنفسها إلا وسارع إليها الفساد . وأعتبرُ أن السقوط المدوّي للإخوان في مصر جاء جراء العمى المعرفي الذي استبدّ بقادتها، ولا أعتقد أن المسؤولين عن السقوط لهم دراية بالتاريخ أو علم الاجتماع أو العلوم السياسية، والجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه .
عادة ما يحصل في الوعي الطائفي التماهي بين المركب الديني والمركّب التاريخي الاجتماعي للطائفة . وتزيد تجربة المحنة والمعاناة والابتلاء من ترسخ هذا التمازج حتى لتتمثّل الطائفة تصوراتها للدين الأكثرَ وفاء للنموذج الأصلي المتواري في التاريخ، ولكن داخل هذا الوهْم عادة لا تعي الطائفة ذلك الاحتكار والاستحواذ وغالباً ما تنفي ذلك، وتتصور أنها حركة منفتحة .
عطفاًعلى ما سبق هنا ما الفارق بين الشرعية والشريعة بهذا المعنى؟
كلمتان أفرغتا من معنيهما في السياق العربي الراهن .
كيف تقرأ مستقبل الإسلام السياسي في دول ما يسمى الربيع العربي؟
- في الإسلام السياسي ليس هناك وضوح رؤيوي، وكل ما في الأمر أن تياراته تستقل القطار السياسي وهي لا تدري أين سيجرها . وتلك الضبابية الدينية السياسية لديها متأتية من تدني المعرفة بالحقل الذي وجدت نفسها فيه، ومن ضعف النظرية السياسية ذات الطابع الإسلاموي .
خطورة الإسلام السياسي في البلاد العربية أنه يفتقر إلى رصيد عقلاني . فإضافة إلى الضعف في جينة تكوينه، لا سيما مع المدرسة الإخوانية، فإنه لا يصغي إلاّ لذاته، للخلّص من مجلس الشورى وللجماعة ولكوكبة التنظيم . الإسلام السياسي ما لم يتحول إلى الاشتغال على الإسلام الثقافي فسيبقى على سطح بنية الاجتماع العربي . قد يمتطي ظهر السلطة، وقد يمسك بمقاليد الأمور، ولكنه سرعان ما تتفلّت منه، لافتقاده وسائل التفهم والتخاطب مع الناس . فالعمل السياسي الذي لا تدعمه الثقافة يكون عرضة للانحراف بسرعة .
أضيف أن الإسلام السياسي السني يغلب عليه الطابع المظهري والشكلاني، ولذلك تجد فيه منزعاً غوغائياً حشدياً يحيد عن الرصانة والتروي . ومن هذا الباب لا أعلّق أملاً كبيراً عليه في إنهاض الناس، وما أنا متأكد منه أنه قادر على سحبهم نحو الأسوأ . وأقدّر أن سفينة النجاة للإسلام السياسي من الانتحار الذاتي، هي التمسك بحبل العقلانية المتين في التعاطي مع الواقع وفي النقد الذاتي . وفي ظل غياب هذين الشرطين فهو كالسائر إلى حتفه بساقيه .

ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"