عادي
تنقل دائم بين المدن والكتب

عبداللطيف البغدادي.. الطبيب الرحالة

01:21 صباحا
قراءة 7 دقائق

إعداد : محمد إسماعيل زاهر:

«إن أرض مصر من البلاد العجيبة الآثار، الغريبة الأخبار، وهي وادٍ يكتنفه جبلان شرقيّ وغربيّ، والشرقيّ أعظمهما يبتديان من أسوان ويتقاربان بأسنا حتى يكادا يتماسان، ثم ينفرجان قليلاً قليلاً، وكلّما امتدّا طولاً انفرجا عَرضاً، حتى إذا حاذيا الفسطاط كان بينهما مسافة يوم فما دونه، ثم يتباعدان أكثر من ذلك والنيلُ ينسابُ بينهما ويتشعَّب بأسافل الأرض وجميعُ شُعَبه تصبّ في البحر المالح»، وعلى هذا المنوال يستمر كاتبنا موفق الدين عبد اللطيف البغدادي في وصف مصر في كتابه الشهير «الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر»، حتى يظنه القارئ ينتمي إلى زمرة كبار الرحالة في تراثنا العربي الإسلامي، خاصة وأن الكتاب أعيدت طباعته أكثر من مرة تحت أكثر من عنوان تندرج جميعاً بصيغة أو أخرى تحت «رحلات عبد اللطيف البغدادي»، ولكن سيرة الرجل وإسهاماته العلمية تنفتح على فضاءات عديدة، حيث قدم إضافات في اللغة والفلسفة والطب والعلوم الدينية.
يقول عنه ابن أبي أصيبعة في «عيون الأطباء»: «هو الشيخ الإمام الفاضل موفق الدين أبو محمد عبداللطيف بن يوسف بن محمد بن علي بن أبي سعد ويعرف بابن اللباد، موصلي الأصل بغدادي المولد، كان مشهوراً بالعلوم، متحلياً بالفضائل، مليح العبارة، كثير التصنيف، وكان متميزاً في النحو واللغة العربية، عارفاً بعلم الكلام والطب، وكان قد اعتنى كثيراً بصناعة الطب لما كان بدمشق واشتهر بعلمها، وكان يتردد إليه جماعة من التلاميذ وغيرهم من الأطباء للقراءة عليه، كان والده قد أشغله بسماع الحديث في صباه من جماعة منهم أبو الفتح محمد بن عبد الباقي المعروف بابن البطي، وأبو زرعة طاهر بن محمد القدسي، وأبو القاسم يحيى بن ثابت الوكيل وغيرهم»
ولد البغدادي في عام 557ه/ 1162م، وانصرف شأنه شأن طلاب العلم في ذلك العصر، إلى سماع الحديث وحفظ القرآن وإجادة الخط و الشعر، درس على أيدي عدد من شيوخ بغداد وخرسان ثم رحل إلى الموصل حيث أكمل دراسته في الرياضيات على يد الكمال بن يونس.
سافر البغدادي إلى دمشق، خلال مدة حكم صلاح الدين آنذاك وأقام بين علمائها طلباً للمزيد من العلم، ثم انتقل إلى القدس ومنها إلى عكا حيث لقي بهاء الدين شداد قاضي العسكر وعماد الدين الكاتب، ثم رحل إلى مصر، وهناك اتصل بموسى بن ميمون وأبي القاسم الشارعي.
لم تطل إقامة البغدادي في مصر وقفل عائداً إلى القدس، والتقى صلاح الدين و وصف مجلسه بقوله: «وأول ليلة حضرته وجدته مجلساً حفلاً بأهل العلم يتذاكرون في أصناف العلوم والسلطان يحسن الاستماع إليهم ويشاركهم النقاش». ورتب صلاح الدين للبغدادي مئة دينار في الشهر وأرسله إلى دمشق حيث انكب على الاشتغال بالعلم وإقراء الناس في الجامع.

دأب العالم

لكن البغدادي كان يمل الاستقرار في مكان واحد مدة طويلة فيمم من جديد شطر مصر حيث لازم الشارعي، وكان يُقرئ الناس بالأزهر صباحاً ومساء، ويقرأ الطب للكثيرين في وسط النهار، وكتب في مصر مؤلفه السابق الإشارة إليه واصفاً أحوال البلاد، ويظهر في كتابه عشقه للآثار والتي يفصل فيها الوصف الذي يدل على قناعة الرجل بأهمية الأثر في معرفة ما آلت إليه حال الغابرين، حتى إنه كلف رجلاً ليقيس له ارتفاع الهرم.
وأنت تقرأ سيرة وكلمات البغدادي تلهث أحياناً وراء هذا العالم الذي لا يهدأ تجواله بين الكتب والمدن، يقول: «ولما كان في سابع عشر ذي القعدة من سنة خمس وعشرين وستمئة، توجهت إلى أرزن الروم، وفي حادي صفر من سنة ست وعشرين وستمئة، رجعت إلى أرزنجان من أرزن الروم، وفي نصف ربيع الأول توجهت إلى كماخ، وفي جمادى الأولى توجهت منها إلى دبركي، وفي رجب توجهت منها إلى ملطية، وفي آخر رمضان توجهت إلى حلب وصلينا صلاة عيد الفطر بالبهنساء، ودخلت حلب يوم الجمعة تاسع شوال فوجدناها قد تضاعفت عمارتها»، ولا تدري أين تبدأ الرحلة مع المكان وأين تنتهي؟، وهو الشعور نفسه الذي يتأكد مع العلوم التي تنقل بينها البغدادي.
تؤكد كلمات البغدادي ونصائحه للعلماء المعنى السابق: «وإياك أن تشتغل بعلمين دفعة واحدة، وواظب على العلم الواحد سنة أو سنتين أو ما شاء اللّه، فإذا قضيت منه وطرك فانتقل إلى علم آخر، ولا تظن أنك إذا حصلت علماً فقد اكتفيت بل تحتاج إلى مراعاته لينمو ولا ينقص، ومراعاته تكون بالذاكرة، والتفكر واشتغال المبتدئ بالتلفظ والتعلم، ومباحثة الأقران، واشتغال العالم بالتعليم والتصنيف، وإذا تصديت لتعليم علم أو للمناظرة فيه فلا تمزج به غيره من العلوم، فإن كل علم مكتف بنفسه مستغن عن غيره».
عاش البغدادي مدة في القدس ودرس في الجامع الأقصى وفي دمشق اشتهر بصناعة الطب ودرّس في المدرسة العزيزية، وتعلم الرياضيات في الموصل على يد الكمال بن يونس المولع بالكيمياء والفلسفة وأيضاً كتابات السهروردي، يصف ولع أهل زمانه بذلك الأخير قائلاً: «وسمعت الناس يهرجون في حديث الشهاب السهروردي المتفلسف، ويعتقدون أنه قد فاق الأولين والآخرين، وإن تصانيفه فوق تصانيف القدماء فهممت لقصده ثم أدركني التوفيق فطلبت من ابن يونس شيئاً من تصانيفه، وكان أيضاً معتقداً فيها فوقعت على التلويحات، واللمحة، والمعارج، فصادفت فيها ما يدل على جهل أهل الزمان».
درس البغدادي في مجلس كمال الدين عبدالرحمن الأنباري، وعرف منذ صغره بشغفه بالمطالعة والبحث والحفظ، فاستوعب كتاب «المقتضب» للمبرِّد أبي العباس البصري، و«أدب الكاتب» لابن قتيبة.
ولنستمع إليه وهو يتحدث عن شغفه بالعلم والمعرفة: «وأول ما ابتدأت حفظت اللمع في ثمانية شهور، وأسمع كل يوم شرح أكثرها مما يقرأه غيري، وأنقلب إلى بيتي فأطالع شرح الثمانين، وشرح الشريف عمر بن حمزة، وشرح ابن برهان، وكل ما أجد من شروحها، وأشرحها لتلاميذ يختصون بي إلى أن صرت أتكلم، ولا ينفذ ما عندي، ثم حفظت أدب الكاتب لابن قتيبة حفظاً متقناً، أما النصف الأول ففي شهور، وأما تقويم اللسان ففي أربعة عشر يوماً لأنه كان أربعة عشر كراساً، ثم حفظت مشكل القرآن له وغريب القرآن له، وكل ذلك في مدة يسيرة، ثم انتقلت إلى الإيضاح لأبي علي الفاسي فحفظته في شهور كثيرة، ولازمت مطالعه شروحه وتتبعته التتبع التام حتى تبحرت فيه وجمعت ما قال الشراح، وأما التكملة فحفظتها في أيام يسيرة كل يوم كراساً، وطالعت الكتب المبسوطة والمختصرات وواظبت على المقتضب للمبرد»، ويستمر بعد ذلك في سرد قراءاته لنجد أنفسنا أمام رجل لا يفارقه الكتاب أو لا يفارق هو الكتاب، وفي كل مكان يذهب إليه أو مدينة يزورها يتجه أولاً إلى المكتبات الموجودة ويبحث عن مجالس العلماء.
انصرف البغدادي بعد ذلك إلى دراسة الفلسفة ومطالعَة كتب أرسطو وأفلاطون وعلماء الكلام، فدرس كتاب «مقاصد الفلاسفة» و«ميزان العمل» وغيرهما للإمام الغزالي. ووقف على كتاب «النجاة» لابن سينا، ونسخَ له كتاب «الشفاء» بخط يده، وله تعليقات وآراء تنتقد هوس علماء عصره بأرسطو وكتب الكيمياء، يقول: «ورجعت إلى دمشق وأكببت على الاشتغال وإقراء الناس بالجامع، وكلما أمعنت في كتب القدماء ازددت فيها رغبة، وفي كتب ابن سينا زهادة واطلعت على بطلان الكيمياء، وعرفت حقيقة الحال في وضعها، ومَن وضعها وتكذّب بها، وما كان قصده في ذلك، وخلصت من ضلالين عظيمين موبقين، وتضاعف شكري للَّه سبحانه على ذلك، فإن أكثر الناس إنما هلكوا بكتب ابن سينا وبالكيمياء».
واِستهوت البغدادي دراسة الكيمياء وبعيداً عن أفكارها الباطنية التي رفضها استفاد منها في الطب، وتعمق في دراسة النبات لعلاقته بصناعة الدواء، كما درس كتب ابن وافد وأبِي حنيفة الدينوري في هذا العلم، واختصرهما، إضافة إلى دراسته لكتاب ديسقوريدس في «الحشائش».
شغف البغدادي بالطب ودراسته وتعليمه وانصرف بكل جوارِحه وجهده إلى إتقان هذه الصناعة، والبحث في كتب مشاهيرها المعاصِرين له أو الذين تَقدموه.
لقد آمن عبداللطيف البغدادي بأن التشريح ضرورة من ضَرورات صناعة الطب ودراسته ومزاولته، وألح في الاعتماد عليه في المعالجة والوصول إلى اليقين؛ فقد صحح بعض أخطاء جالينوس ومن بعده في التشريح، وخاصة في وصفهم عظم الفك السفلي، مما يدل على علمه في التشريح. ومن كتبه الطبية: شرح الخطب النباتي، شرح أربعين حديثاً طبِية (شرح أَحاديث ابن ماجة المتعلقة بالطب)، اختصار كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري، كتاب الفصول، مقالة في حقيقة الدواء والغذاء، مقالة في شفاء الضد بالضد، الأدوية المفردة، الترياق (فصول منتزعة من كلام الحكماء، حل فيها شيئاً من شكوك الرازي على كتب جالينوس)، شرح كتاب الفصول لأبقراط، شرح جالينوس لكتب الأمراض الحادة لأبقراط، اختصار كتاب آلات التنفس وأفعالها (ست مقالات)، مقالة في قسمة الحميات وما يتقوم به كل واحد منها وكيفية تولدها، اختصار كتاب العضل، كتاب النخبة وهو خلاصة الأمراض الحادة.

تجارب ومشاهدات

تنبه البغدادي إلى مرض السكري، وشخص أعراضه، ولخصها باسترسال البول، والعطش الدائم الشديد بسبب كثرة التبول وانطراح الماء الذي يرد إلى الكلية من دون الاستفادة منه، يقول: «وتسمى هذه العلة ديابيطا ومعناه عَبَّارة الماء»، والدَّيابيطا أو الديابيطس كلمة إغريقية أطلقها اليونان على داء السكري، كما يقول: «إن هزال البدن وجفوفه من علامات هذا الداء»، ثم يصف البغدادي معالجته التي تقوم على الحمية والتغذية المقننة والراحة والهدوء النفسي.
قال البغدادي أيضاً إن الفك السفلي هو قطعة واحدة، مخالفاً في ذلك رأي جالينوس وابن سينا، وذلك بعد التجارب الكثيرة التي قام بها، حيث يقول في كتابه «الإفادة والاعتبار»: «إلاَّ أننا شاهدنا ألوفاً من العظام والهياكل، وقمنا بفحصها بدقَة متناهية»، ثم يقول: «وكان جالينوس قد علَمنا بأن الفك الأسفل يتألف من عظمين، يجمع بينهما نسيجٌ ضام، غير أنَّنا عاينا ألفي عظم، ولم نجد فيها فكاً واحداً مؤلَّفاً من عظمين... إنه عظم واحد».
توفي البغدادي في عام 629 ه/ 1231م، وضاعت أكثر مؤلفاته بسبب الكوارث والحروب والهجمات المغولية والصليبية، فبعضها أحرِق، وبعضها سلب، وتبقى كلمته «ومن لم يحتمل ألم التعلم لم يذق لذة العلم» لتذكرنا بدأب علماء ينتمون إلينا تعاطوا مع المعرفة بصدق وإخلاص.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"