ليلة غالب هلسا

03:13 صباحا
قراءة دقيقتين
يوسف أبولوز

لمن لا يعرف الروائي الأردني غالب هلسا (1930 - 1989)، فهو يتحدث باللهجة المصرية، وعاش بين لبنان وسوريا والعراق ومصر، ودفن في مسقط رأسه في قرية ماعين غربي مدينة مادبا في الأردن، وحظيت في العام 1986 بحوار صحفي معه كان على طريقة «ليلة لشبونة» الروائية الألمانية التي يمضي فيها بطلها المطارد من «الجستابو» شفارتس ليلة كاملة في لشبونة وهو يسرد حكايته لرجل آخر مطارد كان هو أيضاً مثل شفارتس في طريقه إلى أمريكا هرباً من البوليس الألماني. ولكن ليلتنا تلك مع غالب هلسا كانت «ليلة دمشق»، فقد طلع علينا الصباح ونحن نتجول في الصالحية.. ومن مقهى إلى مقهى كان صاحب «الضحك» قليل الضحك، وكان يتحدث ببطء وهدوء تماماً مثل خطّ يده البطيء الهادئ.
الطريق من العاصمة الأردنية عمّان إلى دمشق حوالي ثلاث ساعات بالسيارة أو أكثر قليلاً بحسب حركة الحدود آنذاك في ثمانينات القرن الماضي. وما إن تغادر نقطة حدود درعا حتى تنفتح على يمينك وعلى يسارك حقول الخضار والزروع المتبرجّة تحت الشمس في ضحى بلاد الهلال الخصيب.
كان عدد من الكتّاب الأردنيين يذهبون إلى دمشق لرؤية غالب هلسا، وممدوح عدوان، وعلي الجندي، وزيارة اتحاد الكتّاب العرب عندما كان يرأسه علي عقلة عرسان صاحب القلب الكبير والمحبة الكبيرة لنا نحن الشعراء المبتدئين آنذاك، إذ نأخذ مخطوطاتنا الشعرية أو ما تسمى (بواكير الأعمال) لتجد طريقها للنشر ضمن إصدارات الاتحاد بطباعة جيدة مع مكافأة مالية.
من واجبات الزيارة (وزيارتنا إلى دمشق كانت ليست قصيرة) أن نأخذ الإفطار في المطاعم الصغيرة المنتشرة في أول مدخل سوق الحميدية، ثم الحلويات من السوق نفسها حيث كرنفال محلاّت الذهب والقماش والعطور.
في الضحّى أو في الظهيرة يبدأ يوم «مقهى الهافانا»، ولا بأس بالتحوّل إلى مطعم «اللاّتيرنا» أول شارع الصالحية حيث يلتقي عدد من الشعراء كانت من بينهم شاعرة رحلت قبل أعوام محاطة دائماً بالصمت الكثيف والحزن، أما في «الهافانا» فأنت أشبه ما تكون في منتدى أو في برلمان. ركن للقوميين، ركن للحزبيين، ركن للناصريين، ركن لأهل اليسار (الذين إذا كانت تغيم في موسكو تمطر في دمشق)، وكان هناك ركن غامض روّاده كثيرو التلفت يميناً ويساراً، وهؤلاء هم الظلال الكثيفة الثقيلة الشبيهة بظلال أولئك الرجال القساة الذين هرب من ويلاتهم شفارتس هو وزوجته التي تموت في لشبونة.
«ليلة دمشق» بحضور غالب هلسا الرائع كانت أكثر من ليلة، والمقهى الواحد كان أكثر من مقهى، ودمشق نفسها كانت أكثر من دمشق بذلك (العزّ) الثقافي والاجتماعي والحياتي المملوء بالجمال والخفة وأناقة الليالي.
رحل غالب هلسا، والكثير من الأشياء الدمشقية رحلت أيضاً، ولم يبق إلاّ الركن الذي يجلس فيه رجال غلاظ جلاوزة كثيرو التّلفت، ودائماً أياديهم بالقرب من مسدساتهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"