الإعلام العربي فضاءات مفتوحة وعقول مغلقة

04:19 صباحا
قراءة 6 دقائق

الرقابة أنواع متعددة، منها ما هو مرتبط بالتعبد لله، وما هو خاص في شؤون الحياة وهي أيضاً في هذا الجانب متعددة ومتنوعة، رقابة مالية، رقابة إدارية، رقابة إعلامية وأخرى أمنية، وموضوعنا هنا الرقابة في عالم الإعلام المقروء، والمسموع، والمرئي العام والخاص، الذي بات يشكل محوراً بالغ الأهمية في استراتيجيات هذه المؤسسات، وتأثيراته في المجتمع والأفراد . وبحسب الأدبيات الإعلامية المتعارف عليها، فإن خروج مضمون وسيلة ما، على التوجه العام، يترتب عليه حجب أو حذف أو انتقاء وتكرار وفرض رسالة إعلامية عن سواها، وتتفاوت بحسب السياسات السائدة، وهامش الحريات بين دولة وأخرى، متقدمة أو نامية، في ظل الفضاءات المفتوحة، وشبكات الإعلام التفاعلي أو الوسائط الإعلامية المتعددة، والفوضى الخلاقة التي تجتاح ممارسة هذه المهنة، وبخاصة في عالمنا العربي قبل ثورات الربيع العربي وبعدها .

كما أن الرقابة الذاتية لدى الصحفي أو الكاتب أو المعد أو المذيع أو المسؤول العام في أحيانٍ كثيرة أعلى بكثير من الرقابة الحقيقية، أي بمعنى أنهم ملكيّون أكثر من الملك، وفي حالات أخرى الرغبة إما في تحقيق مكاسب ذاتية، أو تجنب لعقوبات ما، أو لتصفية حسابات ضيقة، وأجندات خاصة، ترسّخت من واقع الممارسة، وأصّلت لها كواقع لا يمكن نفيه .

ومن يتابع المشهد الإعلامي في وسائل الإعلام العربية، يرى كيف تدار وتوجه الرسالة الإعلامية، بحسب فلسفة ورؤية كل مؤسسة، ووفقاً لخطها السياسي وفكرها الأيديولوجي، وبقدر ما تتحرر هذه الوسائل من ضغوط السياسة ورأس المال، بقدر ما تقترب أكثر من المصداقية، وتتسع شريحة مقتنيها ومتابعيها، في ظل هذا الانتشار الواسع لوسائل الإعلام، وشدة المنافسة، وتطور المعلومات، وارتفاع نسب الحريات لحد الفوضى، وبروز تكنولوجيا الاتصال، والثقافات المتباينة، ورغم ازدياد الوعي والفهم لدى شريحة كبيرة من الناس، وعلم أصحاب هذه المؤسسات الإعلامية رسمية أو خاصة، بهذا الواقع الجديد، الذي يستدعي رفع هامش الحريات الهادفة نقداً وتحليلاً وحواراً، وتحجيم مساحة المادة الضعيفة والآراء التي لا تتسم بالصدقية والمسؤولية .

غير أن الواقع لا يعكس ذلك، ومن يتابع حال الإعلام العربي قبل عقود وما هو عليه الوضع الآن في العديد من البلدان العربية يلاحظ العجب العجاب، ويصاب بغصة وألم، ويرى تحدياً صادماً لعقول الناس، من حيث ارتفاع مساحة الخداع السياسي من جانب، والابتزاز الأخلاقي والمهني من جانب آخر، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى مستوى السب والقذف العلني البعيد كل البعد عن قواعد وسلوكات هذه المهنة، التي لها من الوجاهة والقداسة ما لها، وبات هذا ديدن أغلبية هذه الوسائل رسمية كانت أو خاصة، وتراجع مساحة النقد الذي عرفته وسائل الإعلام، المحكوم بضوابط المهنة والأخلاق، حول قضايا سياسية أو فنية أو اقتصادية أو رياضية . . الخ، لتحقيق التقدم، وإحداث إصلاحات تنموية وسياسية واقتصادية لمصلحة الحكومات والشعوب .

إن تبني هذا النوع من الإعلام ورعايته، له انعكاسات سلبية على الجانبين الرسمي والشعبي، ويعطي شرعية لإعلام الوسائط المنفلت، ويساعد على انتشاره، ويدفع الناس للتكيف معه، بدلاً من تبني إعلام يتصف بالمصداقية، وبمادة صحفية رصينة ومنضبطة، تسلط الضوء على الكثير من العيوب والقصور في مؤسساتنا العربية ، بهدف تلافيها وتداركها إعلاءً للصالح العام .

قد يقول قائل، وما دخل الرقابة الإعلامية في ذلك؟ الجواب إن مقص الرقيب اللاعب الرئيس، لهذا النوع من المادة الإعلامية، أن تفرض سيطرتها على التوجه العام ومجمل ما يبث أو ينشر، في مقابل تضييق النشر على المحتوى والمضمون الجيد، والسبب الثاني يعود إلى ضعف القيادات، كيف كانت وكيف هي الآن، مثلها مثل بقية القيادات الأخرى، في عالم السياسة والاقتصاد والقانون والتعليم والخدمات والقضايا الأخرى . فمعظم المؤسسات العربية بات الحال فيها من بعضه كما يقال، فقضايا الحريات والحقوق، تحتاج إلى شخصيات على قدر كبير من الشجاعة والهيبة والمكانة والنفوذ والكاريزما والقبول المجتمعي، بجانب الخبرة العلمية والعملية، وأن تكون قادرة على الحد من سياسة المنع والتضييق على النقد البناء في الإعلام بشكل خاص، وبالمؤسسة العربية عموماً كالمجالس التشريعية أو في غيرها من المنتديات والملتقيات، وعلى طرح القضايا المجتمعية والدفاع عنها باستماتة واستبسال ومن دون استسلام أو مهادنة .

يضاف إلى ذلك أيضاً حجة ووجاهة ومنطقية القضايا المطروحة، كي تنال الموافقة والدعم من جانب السلطة وأصحاب القرار، والرضا والقبول من قبل الناس، وهذا منعدم في غالب ما نرى ونشاهد، وقد ورد عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، حين سُئل عن الساعة فقال حين يوسد الأمر إلى غير أهله، أي وضع الشخص بغير مكانه، ومن يرصد الساحة في عالمنا العربي اليوم، يرى أن أغلب من يتصدر المشهد هم من هؤلاء الذين يجيدون اللعب على الحبال، ويصورون الأمور على أحسن حال، والويل والثبور لمن يخالفهم الرأي .

والإعلام شريك رئيس في إصلاح منظومة القيم والمفاهيم التي تحدد علاقات وسلوكات الأفراد والنسيج الاجتماعي، بل وفي مجمل المنظومات الأخرى سياسية واقتصادية، وحين تخضع كاملة لرقابة غير مسؤولة وأيد مرتعشة تزيّن القبيح من القول، وتبيح تبني طرح من الطروحات، أو أنها تستسلم له، كتلك التي تؤثر في المضمون الإعلامي، أو أنها تؤسس لمفاهيم غريبة على مهنة الإعلام، لم تكن قبل عقود قليلة سائدة، لا في مناهج الدراسات الإعلامية، ولا في الوسط الإعلامي، هذا العالم الذي تحكمه مبادئ وقيم المسؤولية الاجتماعية، لمن درس نظريات الإعلام، ومنهاج البحث العلمي، ولكن لغياب المعايير الحاكمة لاشتراطات ممارسة هذه المهنة من ناحية، وضعف القيادات من ناحية أخرى، ما أسهم كثيراً في هذا الخلل، وأنتج مثل هذه الأنماط الغريبة، في وقت كان يتطلب رفع سقف النقد في القضايا التي تُطرح وتكون في مصلحة الناس، والنظام العربي ومؤسساته، ويضفي مصداقية لصاحب القرار .

إلا أن غياب القيادات القوية الراشدة وشيوخ المهنة وأساتذتها في عالم الإعلام العربي، الذين يصلحون بعض ما أفسده الدهر، ويسعون إلى تحسين السيئ المتاح، ويضعون أسس التوازن بين المباح والمسكوت عنه والممنوع، في ظل عالم متغير يموج بالفتن والأزمات، والتعامل معه يعد علماً وفناً، لا يجيده إلا من جمع بين الخبرة العلمية والمهنية، وأعطاه الله البصر والبصير . فغياب هؤلاء أو تغييبهم عن الميدان أو انكفاؤهم لسبب أو من دون سبب أو لقلة عددهم، حال دون تحقيق هذا الهدف النبيل، وبتنا في وضع شبيه بإعلام منظومة الدول الاشتراكية قبل تفككها، وازدادت سطوة التوجيه، رسمياً كان أو خاصاً رغم ما يشهده العالم من انفتاح إعلامي، وأصبحت فيه وسائل الإعلام العربية، أسيرة إما لإغراءات رأس المال الرسمي أو الخاص، أو وفق توجهات ضيقة لا تنظر للصالح العام، بقدر نظرتها لتحقيق أغراض خاصة بها، أو لتصفية حسابات في ما بينها، وهذه الظاهرة أكثر وضوحاً في العديد من الدول العربية، التي تتعدد فيها القوى والتيارات، وتشهد فيها الساحة صراعات حزبية وسياسية في ظل ممارسات خاطئة .

وسادت في عالمنا العربي نظرية ترى في تكليف الضعيف فكرياً وسياسياً ومهنياً، خير وسيلة لتنفيذ التوجيهات، والمؤسسة الإعلامية حالها كحال بقية المؤسسات، لن ينصلح أمرها إلا بصلاح أمر المؤسسة العربية برمتها، وهو كما يبدو صعب المنال في ظل ما نرى ونشاهد، ولا يلوح في الأفق ما يؤشر إلى إصلاح حقيقي لحالها قريباً، بل إن اختيار القيادات العربية، يخضع لمعيار الولاء والسمع والطاعة لا الكفاءة والقدرة على المواجهة في اتخاذ القرار، ومن يتابع التغطيات الإعلامية للأنشطة الرسمية في عالمنا العربي يرَ كيف تصور المنجزات الوهمية وتعظم، رغم تخلف الخدمات التعليمية والصحية والإسكانية، وازدياد حجم البطالة بين الشباب من خريجي وخريجات الجامعات والكليات، وتراجع الإصلاحات .

والسبب أن المؤسسة العربية بعامة، تدار وفق معايير خاصة، تختلف عن مثيلاتها في المؤسسات العالمية، وإلى حين قيام القيادات العاقلة والرشيدة في عالمنا العربي بإصلاح هذا الخلل، وإعادة التوازن من وضع الرجل المناسب في مكانه المناسب، علماً، وخلقاً، أعان الله المواطن العربي على ما هو عليه، وأعطاه صبراً وحلماً، لأن في سياسة العناد، مفسدة للعباد والبلاد، في وقت تحتاج فيه أمتنا العربية إلى أهل الرأي، والفكر المستنير، والنصيحة الصادقة الصدوقة، كي تستعيد وحدتها، وتسترد حضورها وحقوقها وتتجاوز ما يدبر لها من مؤامرات كَقِطَعِ الليْلِ الْمُظْلِمِ تضر بالمجتمع حكاماً ومحكومين .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"