الانسحابات بعد الإخفاقات

02:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبدالله السويجي

الانسحابات التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الأيام الأخيرة بشكل فجائي من سوريا وأفغانستان، التي أربكت حتى حلفاءه «الإسرائيليين» لم تكن مفهومة أيضاً بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الإعلام، إلا أن بوتين بلا شك لديه تصوراته وتحليلاته وربما صفقاته مع الرئيس ترامب. لكن وفي كل الأحوال، حسب تصورنا، فإن هذا الانسحاب من سوريا وأفغانستان لا يصب في استراتيجية عودة الجندي الأمريكي إلى بلاده، أو التذرع بأن الولايات المتحدة تدافع عن الآخرين الذين تقع عليهم مسؤولية الدفاع عن أنفسهم.
وبشكل عام، فإن التدخلات الأمريكية في أفغانستان أو العراق أو سوريا جلبت الويل والدمار لهذه البلدان، وفشلت الولايات المتحدة في نشر «قيمها السياسية والأخلاقية والإنسانية» في هذه الدول، ناهيك عن دول أخرى.
لقد طردت حركة طالبان وتنظيم القاعدة القوات السوفييتية من أفغانستان بدعم عسكري واستخباراتي ولوجستي من الولايات المتحدة الأمريكية، وبسط التنظيمان سيطرتهما على أفغانستان، واستمر الوضع على حاله حتى أحداث 11 سبتمبر في العام 2001، حيث اتهمت أمريكا تنظيم القاعدة بتدمير البرج التجاري العالمي والهجوم على مقر وزارة الدفاع الأمريكية بطائرات مدنية، فقامت أمريكا بغزو أفغانستان، وقد استطاعت قلب النظام لكنها لم تستطع القضاء على طالبان والقاعدة رغم إرسال آلاف الجنود وصرف مليارات الدولارات، وهو الإخفاق الأول للاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان.
وقام الجيش الأمريكي بغزو العراق واحتلاله في 19 آذار (مارس) من العام 2003 بعد اتهام صدام حسين بالحصول على أسلحة الدمار الشامل وتصنيعه والتعامل مع تنظيم القاعدة، وقد شكلت أمريكا تحالفاً عالمياً خارجياً وتحالفاً داخلياً. وكانت النتيجة تدمير الجيش العراقي والبنية التحتية وتحول العراق من بلد غني إلى بلد فقير بلا كهرباء ولا ماء ولا خدمات صحية أو تعليمية، ناهيك عن العصابات وظهور «داعش» فيما بعد بشكل قوي بالموصل. ونتيجة للغزو الأمريكي للعراق كان تقسيمه وزجه في حرب مع الإرهاب، وقد انسحبت أمريكا في العام 2011 بعد نهب خيراته وتركه يعاني أسوأ حالة إنسانية شهدها في تاريخه، وهذا يشكل الإخفاق الثاني للجيش الأمريكي واستراتيجيته وفشل أمريكا في نشر ديمقراطيتها.
وفي سوريا التي اندلعت فيها الحرب الأهلية في العام 2011 كان للدور الأمريكي بالغ الأثر السيئ في التدخل في هذه الحرب بعد أن زودت مجموعات متطرفة بالأسلحة وأجهزة الاتصال المتطورة لإسقاط النظام السوري، ونشرت في أكتوبر من العام 2015 أول دفعة من جنود القوات الخاصة بواقع خمسين جندياً في سوريا في دور استشاري غير قتالي كأول تواجد عسكري أمريكي على الأرض منذ بدء الحرب السورية وتشكيل التحالف الدولي في أغسطس 2014 بعد أحداث الموصل. وبلغ عددهم في العام 2016 حوالي 500 جندي ثم ذكرت مصادر أن عدد القوات بلغ 2000 جندي في العام 2017. وفشلت أمريكا مرة ثالثة في قلب النظام السوري خاصة بعد التدخل الروسي المباشر ودعمه بقوة للرئيس بشار الأسد، وها هي الآن تستعد للانسحاب تاركة سوريا مدمرة، وتاركة حليفتيها و«حدات الشعب الكردي» و«قوات سوريا الديمقراطية» تحاربان «داعش» وحيدتين.
أبرز الردود على الانسحاب الأمريكي من سوريا جاء على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وصف قرار نظيره الأمريكي دونالد ترامب بأنه «خطوة صحيحة»، مضيفاً أنه لا يفهم ماذا يعني هذا الإعلان بالضبط، وقال إن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا غير شرعي. وأردف قائلاً «في ما يتعلق بانسحاب القوات الأمريكية، لا أعرف ماذا يعني ذلك. للولايات المتحدة حضور في أفغانستان منذ 17 عاماً، وكل عام يتحدثون عن الانسحاب من هناك، لكنهم ما زالوا موجودين». وحذر من خطر تسلل إرهابيي «داعش» من سوريا إلى المناطق المجاورة.
صحيح أن الولايات المتحدة ساهمت بشكل أو بآخر في محاربة تنظيم داعش لكنها لم تتمكن من القضاء عليه في سوريا أو العراق، بل إنه يتمدد بشكل واضح في أفغانستان، وعاد ليتمدد أيضاً في أجزاء من العراق، ومن المتوقع أن يظهر بشكل قوي في سوريا بعد وقف الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية. وفي المحصلة، إن انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان سيقدم فرصة كبيرة لحركة طالبان لتقوي وجودها، وبموازاة ذلك، سيحقق «داعش» انتشاراً واسعاً أيضاً في أفغانستان، الأمر الذي يهدد روسيا أيضاً والجمهوريات السوفييتية السابقة.
إن هذه الانسحابات الأمريكية، إن تمت، قد تعيد المشهد إلى المربع الأول، وتزيد من تواجد الإرهابيين والمتطرفين في المنطقة، أي أنها تخلط الأوراق من جديد للإبقاء على المنطقة في حالة صراع وضياع ودمار، ولن نكترث كثيراً للانتقادات «الإسرائيلية» لهذه الانسحابات وخوفها من الوجود الإيراني، إذ يبدو أن هناك صفقة إيرانية - تركية - أمريكية وربما روسية تنضج على نار هادئة، سنرى آثارها قريباً جداً في المنطقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"