استدامة البناء

00:10 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السويجي

لا توجد فكرة نهائية لأي نظرية، لا سيّما بما يتعلق بالعلوم الإنسانية التي تشمل العلوم السياسية والاقتصادية وعلم الاجتماع والنفس البشرية وغيرها، ولن نتوقف عند ربط البعض الاقتصاد بما يشبه علم الرياضيات. وصاحب نظرية عدم وجود نظرية إنسانية مقفلة هو المفكّر الفرنسي جاك ديريدا، الذي ناقش الذين يضعون حداً للاجتهاد المعرفي في العلوم الإنسانية والتطوير، والكلمة الأخيرة تمس الأفراد والمجموعات والدول، ومن هنا، تغيرت نظريات كثيرة ولا تزال، خاصة أن القرنين العشرين والحادي والعشرين شهدا ثورات في المصطلحات على الصعيد العالمي، منها العولمة، والنظام العالمي الجديد، والحوكمة، والقطب الواحد، وانتصار الليبرالية الرأسمالية، وصراع الحضارات الذي أكد أن الصراع سيكون ثقافياً في المقام الأول.

وقد ساهمت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال في خلخلة المصطلحات، أو إعادة قراءتها من جديد، وفق الوعي وانتشاره وتطور المعارف في شتى الميادين، إلى درجة أن «ليستر ثروا» في كتابه أفول السيادة، ذكر التكنولوجيا الحديثة، كعنصر أساس تلعب في أفول السيادة، ويعني سيادة الدول، أو إضعافها، خاصة مع تحوّل العالم إلى قرية صغيرة، ثم إلى شاشة فضية، أو شبكة عنكبوتية عابرة للحدود والمؤسسات والمعايير الرقابية وغيرها.

فهل أثرت النظريات الجديدة وثورة تكنولوجيا المعلومات وتطوّر المفاهيم في نظريات بناء الدولة؟ إذ على سبيل المثال، كانت متطلبات بناء الدولة قبل ثورة تكنولوجيا المعلومات، مختلفة عنها في عصرنا الحالي، أو بعد الإنجازات الرهيبة التي حققتها تلك الثورة ولا تزال، فإذا وصلنا إلى مصطلح الذكاء الاصطناعي، الذي خلخل الكثير من النظريات، وممارسة الأعمال وفق الآليات التقليدية، نكون قد وصلنا إلى إعادة تعريف المتطلبات لبناء الدولة.

وعلى الرغم من أن مفاهيم بناء الدولة تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن شعب إلى آخر، وتكاد تشبه إلى حد ما موضوع حقوق الإنسان، التي تعدّدت، ولم يعد من المقبول القبول بمبادئ حقوق إنسان واحدة، يتم تطبيقها على الإنسان في كل الدول والمجتمعات، لأن بناء الدولة يستند في البداية إلى السيادة، أي هيبة الدولة في الداخل والخارج، وبسط سيطرتها على رعاياها، وعلى أراضيها، وعلى الرغم من خشونة المصطلح (السيادة)، إلا أن القادة السياسيين المتنوّرين والمتطورين، حوّلوا تلك الخشونة، إلى نعومة، من خلال تطوير آليات تعاملهم مع الشعب، إذ أثبتت التجارب، أن كسب الشعوب بالحسنى، من خلال توفير الحياة الكريمة لهم، أهم من أسلوب البطش الذي لا تزال تتبعه بعض الدول.

وسنتجاوز الآن نظريات بناء الدولة، هرباً من التنظير الذي كان يقترب من الجدل البيزنطي في عصور خلت، نحو طرح تعريف، قد يكون طريفاً للبعض، وهو أن بناء الدولة، وقد تحقّق، يشبه الطبيب الذي تخرج، بعد دراسة سبع سنوات، والذي، كي يحافظ على جاهزيته، عليه مواكبة الدراسات الحديثة، والاكتشافات في مجاله، لأنه لو اكتفى بما حصل عليه من معارف في كلية الطب ولم يجهد نفسه في الاطّلاع على الدراسات الحديثة، فإنه سيكون مثل المجتمع الذي أقفل على نفسه، أو أحاط نفسه بأسوار، وامتنع عن التعامل مع المجتمعات الأخرى، أو مثل الدولة التي اكتفت بما لديها، وتوقفت عن تطوير مؤسساتها ومناهجها، ومصانعها، وبنيتها التحتية، وطرق تقديم خدماتها، ولا شك أن مثل هذه الدولة، ستكون معرضة للتخلف، والتذمر، والبيروقراطية القميئة، وستجد نفسها في ذيل الدول الأخرى.

إن بناء الدولة، يعتمد على تطوير الحاضر وتصويب الرؤى نحو المستقبل، وهذا التطوير يشمل كافة مؤسسات الدولة، الرسمية والخاصة، أي تطوير القطاعين العام والخاص، ودول كثيرة تقيم شراكات ناجحة بين القطاعين، وأهم تطوير يمكن أن يؤخذ به هو تطوير التشريعات، ووضع القوانين التي تراعي روح العصر، وتطوير العلاقة بين الحاكم والشعب، والعمل بشكل مستمر ودقيق على تطوير المناهج التعليمية، كون التعليم هو الركيزة الأساسية لبناء الدولة الحديثة.

ومع ذكرنا للمصطلح الأخير، نتوقف عند تطوير البنية التحتية بشكل دائم، وصيانتها باستمرار، وكذلك تحسين الخدمات الصحية والعلاجية، وتوفير بيئة صحية للمواطنين، للحصول على مجتمع صحي ونظيف. وقد يكون التطوير الرئيسي الذي يجب أن يتحقق دائماً، ويخضع لمراجعات دورية، هو تطوير الكادر البشري، ليس علمياً وتعاليمياً وصحياً فحسب، وإنما أخلاقياً، من خلال تعزيز منظومة القيم. ونحن هنا، لا نعني (صناعة الملائكة)، البشر خطّاؤون وخير الخطائين التوابون، والتوبة ليست دينية فحسب، إنما هي المراجعة الذاتية الصادقة للسلوك والإنجاز والمحتوى.

ولو نظرنا إلى حاضر دولة الإمارات العربية المتحدة، لوجدناه عبارة عن تراكم الإنجازات النوعية، والتطلع نحو المستقبل، وبذلك تكون الدولة الحديثة قد تحقّقت، من خلال مواكبة كل جديد وحديث في كافة الميادين، وإذا عدنا إلى تعريفنا السابق، وشبّهنا بناء الدول بالطبيب الخريج، سنجد أن هذا الخريج قد تخصّص، وأصبح استشارياً، وعالماً في تخصّصه، ويشرف على خريجين جدد، ويعدّهم ليصبحوا استشاريين وخبراء، وبذلك، يؤهل الجيل المتمكن، بالكفاءات والمواهب والقدرات الصاعدة، لتسهم في إبقاء الدولة، وبنائها بشكل حديث ومتطوّر. ومن هنا أصبحت الإمارات نموذجاً لبناء الدولة الحديثة، ويضرب بها المثل في التنمية المستدامة، أي بناء الدولة المستدام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yypuyr7x

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"