الجيل الثالث لحقوق الإنسان

03:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

شهدت حقوق الإنسان تطورات كبيرة على امتداد التاريخ الإنساني، وساهم في إرسائها مجموعة من المفكرين والفلاسفة والفقهاء، لتلتقطها الكثير من الحركات الثورية وتتبنّاها وترافع بشأنها، قبل أن تستقر في صورة تشريعات داخلية واتفاقيات دولية بعد مسار طويل من النضال والتضحيات، لتتطور بعد ذلك تبعاً للمتغيرات المتسارعة التي شهدها العالم، وما رافقها من تحوّل في الأولويات والحاجات.
بعد الجيل الأول لحقوق الإنسان، المتّصل بالحقوق المدنية والسياسية، الذي حظي باهتمام الكثير من الفلاسفة والمفكرين، قبل أن يحتضنه الكثير من الإعلانات الثورية والمواثيق الدولية والدساتير الوطنية، برز الجيل الثاني لهذه الحقوق، تحت ضغط التحولات المختلفة التي شهدها العالم في خضم صراعات الحرب الباردة، وهي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي تعززت بشكل ملحوظ مع تنامي الفكر الاشتراكي، لتقتحم التشريعات الوطنية؛ قبل تضمينها في الكثير من المواثيق والاتفاقيات والقوانين الدولية..
وتبلور فيما بعد؛ الجيل الثالث لهذه الحقوق بشكل جليّ، مع التحولات والتطورات الكبرى التي شهدها العالم في أعقاب سقوط جدار برلين والتخلص من متاهات الحرب الباردة، وتصاعد الاهتمام بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتزايد الفجوة بين شمال غني وجنوب، ما زال الكثير من أقطاره تعيش على إيقاع عدد من الأزمات والإكراهات، ضمن ما يعرف ب«حقوق التضامن»، في ارتباط ذلك بقضايا البيئة والتنمية وتعزيز السلام العالمي، والولوج العالمي للتكنولوجيا الحديثة، وهي القضايا التي أقيمت بشأنها الكثير من المؤتمرات المواثيق الدولية، كما تأتي أيضاً نتاجاً للتحولات التي عرفتها وظائف الدولة، والتي تجاوزت المهام التقليدية إلى مهام متطورة تدعم إرساء الحقوق والحريات في تجلياتها المختلفة..
وفي خضم هذه المتغيرات برزت الكثير من المفاهيم التي ما زالت تطرح نقاشات حقوقية وسياسية وأكاديمية جمّة، كما هو الشأن بالنسبة لحق المساعدة الإنسانية والحق في التراث المشترك للإنسانية، ثم الإنصاف بين الأجيال، والحق في الاتصال والتواصل، والحق في بيئة سليمة..
ويبدو أن الجهود الدولية المبذولة على مستوى ترسيخ الجيل الثالث لحقوق الإنسان، ستوفر شروط تحقيق التقارب والتضامن بين الشعوب، وتحطيم الفوارق بين الدول المتقدمة، والبلدان النامية، من خلال التركيز على قضايا مشتركة تهم الإنسانية جمعاء..
حاول الكثير من الدساتير على امتداد مناطق مختلفة من العالم، أن تتبنى هذه الحقوق، وتضع لها الإطار الكفيل باحترامها، وقد حرص المشرع الدستوري في المغرب بدوره على استحضارها، وترسيخ حمايتها ضمن عدد من بنود دستور 2011، كما هو الأمر بالنسبة للحق في بيئة سليمة والحق في التنمية والحق في الولوج إلى المعلومات..
وبالرغم من الجهود المبذولة وطنياً وإقليمياً ودولياً، فإن ترجمة هذه الحقوق على أرض الواقع، ما زالت تكتنفها الكثير من الإشكالات، المتصلة في مجملها في تلكّؤ عدد من النظم السياسية، وعدم انخراط عدد من الدول الكبرى في إرساء علاقات دولية؛ تكفل الولوج العادل إلى عدد من هذه الحقوق؛ تحت ذرائع مصلحية اقتصادية ضيقة.
في هذا الإطار اختتمت بمدينة مراكش أشغال ندوة دولية نظمها مختبر الدراسات الدولية حول تدبير الأزمات التابع لجامعة القاضي عياض، قبل أيام، تناولت موضوع الجيل الثالث لحقوق الإنسان في عالم مبهم التوجّه: الإشكاليات والمقاربات والقرارات، بمشاركة باحثين وخبراء من المغرب وتونس والجزائر وموريتانيا وروسيا ومصر وسلطنة عمان وجمهورية التشيك، ينتمون لحقول معرفية مختلفة، تنوعت بين علم السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد والفلسفة والقانونين الدولي والداخلي، وعلم الاجتماع..
رغم التنويه بأهمية هذه الحقوق كسبيل لتجسير العلاقات بين الشعوب، والحدّ من تزايد الفجوة بين شمال غني وجنوب ما زال الكثير من أقطاره تعيش على إيقاع الأزمات، ضمن ما يعرف ب«حقوق التضامن».. تمّ التوقّف عند الكثير من الصعوبات المطروحة في هذا السياق، حيث طرحت مسألة التأثيرات الراهنة لنظام المعلومات على حياة الأفراد، وكيف تستغلها دول الشمال أو الدول المتقدمة لتكريس سيطرتها على دول الجنوب، في إطار ما يعرف بالحروب المعلوماتية.
وتمّت الدعوة إلى التخفيف من وطأة تغير المناخ ومنع تأثيراته السلبية، وإلى تعبئة أقصى حدّ ممكن من الموارد المتاحة من أجل تحقيق تنمية مستدامة قائمة على احترام حقوق الإنسان، والعمل على ملاءمة التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وعلى رأسها الحق في التنمية، والحرص على تنشئة جيل واعٍ بأهمية البيئة والحفاظ عليها، وإرساء ذلك على صعيد المقررات التعليمية بكل مستوياتها.
كما تم التأكيد أيضاً على ضرورة إرساء مبدأي العدالة والإنصاف على الصعيد الدولي، وكذلك الأمر بالنسبة للتوزيع العادل بين الأفراد والجماعات محلياً ودولياً للفوائد الناجمة عن التنمية، إضافة إلى توسيع الاهتمام الأكاديمي بدراسة الحق في التنمية في مختلف أبعاده، وإلى تعميق الروابط بين الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان.
كما أكدت بعض الأوراق أهمية الانتقال من المقاربة الإحسانية نحو تبني مقاربة حقوقية قصد إنماء قدرات الأشخاص في وضعية إعاقة. فيما أشارت أوراق علمية أخرى، إلى أهمية منح آليات جديدة لمؤسسة الوسيط بالمغرب لتعزيز حماية حقوق الأفراد والجماعات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"