القضايا المصيرية والمثقف الغائب

03:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

انخرطتُ على مدى العقود الثلاثة الماضية، في أنشطة ثقافية وسياسية وحوارية، نظمتها منتديات فكرية ومراكز دراسات ومؤسسات مجتمع مدني، وجامعات. شارك فيها مثقفون من مدارس فكرية متنوعة.. كم تحدثنا وناقشنا وكتبنا عن ثنائيات المثقف والسلطة، والمثقف والمجتمع، والمثقف والضمير الإنساني... إلخ.
قضت هذه النخب المثقفة، الشطر الأكبر من عمرها، تدعو إلى تغيير الوطن العربي إلى الأفضل، ديمقراطياً ونماء وحرية وعدلاً وتكاملاً وتجدداً حضارياً وحكماً رشيداً.
أكثرت هذه النخب من التنظير، الذي لا يسهم في تغيير الواقع، وغير القابل للحياة والقياس، ولا ينتج حقائق أو يخلق وقائع على الأرض. ومن ناحية أخرى، تعاملت بعض هذه النخب مع أطروحاتها وشعاراتها بشكل عكسي. ترجمة الديمقراطية - مثلاً- بأضدادها، والاستقلالية الفكرية بالتبعية، لمصلحة أو من خوف.
والرؤية النقدية بتسويغ أخطاء الساسة.
وفي المحصلة، فقد المثقف فاعليته وصدقيته، وصار المثقف الصانع للأفكار، والمستقل الحر، والمحلل والناقد للواقع، والمنتج حلولاً للمشكلات وأزمات المجتمع، والقادر على استشراف المستقبل، عملة نادرة في الوطن العربي.
في السنوات الأخيرة، فوجئت هذه النخب، بتحولات جارفة ومتسارعة، كل شيء من حولها ينقلب بشكل معاكس لما نظرت له، فوضى عارمة واقتتال وخنادق متقابلة وكراهية متبادلة، وهدر فادح في الموارد وخيبات ولا يقين. وانفراط في نسيج المجتمعات، وهامشية مزرية للمثقف.
لم تملك هذه النخب المثقفة رؤية استشرافية للمستقبل، ولم تدرك يقيناً أن هناك بجعة سوداء في رداء ديني أبيض، في انتظارها على الطريق، لتقبض على المثقف والدولة والسلطة معاً. ظنت نخبنا المثقفة ذات يوم أن هذه «البجعات» المنظمة تؤمن بالديمقراطية، والمشاركة، والدولة الوطنية العادلة العصرية، وبكل عناصر «المشروع النهضوي العربي»، فدعتها للالتحاق بما سماه مثقفون طليعيون بـ«الكتلة التاريخية» المؤهلة لتحقيق مشروع النهوض والتنوير والوحدة والحداثة والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والاستقلال القومي والتجدد الحضاري.
وها هي نخبنا المثقفة تكتشف- متأخرة- أن هذه القوى الإسلاموية المنظمة، لا تملك إرادة النهضة ولا ثقافة النهضة، ولا تقاليد المشاركة الديمقراطية السلمية، وإنما تتملكها شهوة الحكم وامتلاك السلطة، ولو عبر الدماء والتدمير وهدم أعمدة الأوطان، واستدعاء الأجنبي، وقتل النفس التي حرم الله قتلها.
فوجئت أيضاً النخب المثقفة في وطننا العربي، بأن الأحداث والمتغيرات تجاوزتها، بل ارتدت عليها أحياناً.. انقلبت خرائط المشهد السياسي والثقافي، وظهر فاعلون جدد على مسرح الحياة العربية، مثقفون وأنصاف مثقفين، يبررون أخطاء ساسة، ويسوغون مشاريع فتنة، وأبواق تبث التعصب والكراهية والفرقة، وتمزق الأوردة والنسيج المجتمعي والإنساني. ومن أبرز هؤلاء اللاعبين الجدد، إعلاميو فضائيات، وفاعلون في شبكات الفضاء السوبراني والإلكتروني والتواصل الاجتماعي. انخرط بعض من النخب المثقفة، في حلبات «صراع الديكة» على الفضائيات، في ظل مناخات من الغلو والعصبيات والهويات الصغرى والفوضى، وقُدمت هذه العينات من المثقفين إلى الجماهير، كنماذج قدوة وخبرة، لا تربي الأمل ولا الثقة بالنفس، ولا تبشر بالتسامح، بل تزيد القلق والارتباك واللايقين في عقول ووجدان الأجيال الناشئة.
ثقافة الصورة المبثوثة عبر الوسائط السمعية والبصرية، وشبكات التواصل الاجتماعي، صارت لها سطوة هائلة ونفاذ أعمق، في تأسيس الوعي بالأحداث، من دون إخضاعها للنظر النقدي.
انقلابات هائلة حدثت، هنا وهناك، وأسهمت في عزلة المثقف المنتج والنقدي والعضوي، عن تشكيل الرأي العام، وعن توجيه الوعي والسلوك وثقافة النهوض، وبرزت آليات وشبكات مصالح تصنع الرموز والنجوم ونماذج القدوة، وتضفي عليها القيمة، وتمنحها الأولوية والجوائز.
أظن أن الرأي العام في هذه الأزمنة والتحولات العميقة، أصبح لا يقيم وزناً للمثقف. بسبب أعماله ونتاجه المعرفي، وإنما فقط عندما يصدع برأي سياسي عبر البث الفضائي العابر للحدود، وهكذا خسر المثقف قضيته الإبداعية والتنويرية، ويقف اليوم في ساحة رمادية، حائراً ومذهولاً يجتر قضايا عسيرة الهضم، لا علاقة لها بشروط النهوض.
إن ما أخشاه، أن يطول هذا الليل، وتستمر النخب المثقفة في تعاملها مع الشعارات أكثر مما تتعامل مع إنتاج المعرفة وتقديم الرؤية النقدية، والاستشراف والتنبؤ بـ«بجعات سوداء» في الوطن العربي ومحيطه الإقليمي.
إن ما يقلق حقاً، أن تواصل نخب مثقفة تعاملها مع الألفاظ أكثر مما تتعامل مع المفاهيم، وأن يخدم البعض منها السياسة على طريقة ميكيافيللي، ووفق مذهبه السياسي الذي نشره في كتابه (الأمير)، قبل خمسة قرون.
نفهم تماماً، عوامل وأسباب فجيعتنا الثقافية، لا ننكر دور التعليم المعاق، ولا نقلل من أثر غياب المشروع الوطني الثقافي الجامع والملهم، ولا نتجاهل دور سلطات جرفت الحياة السياسية والثقافية، و.. و... لكن ما يهمنا هنا هو العامل الذاتي، ما هو ساكن ومستوطن في فكر وسلوك نخب مثقفة، من ظواهر سلطوية وديكتاتورية، وسلبية أخرى.
راجعوا معي الساحة الثقافية طوال العقود القليلة الماضية، هل سمعتم عن مثقف (نهضوي)
أديباً كان أم كاتباً أو ناشطاً حقوقياً أو زعيماً حزبياً، يترأس مركزاً أو مجلساً أو منتدياً أو نقابة أو جمعية مدنية أو حتى حزباً سياسياً أو مؤسسة اجتماعية، يقبل طواعية تداول الرئاسة «الكرسي» في مؤسسات «وجمهوريات» المثقفين العرب؟
راجعوا معي أسماء الرؤساء والأمناء العامين للنقابات والاتحادات والمجالس ومراكز الدراسات والأحزاب والمنظمات الحقوقية وجمعيات الكتاب وغيرها، وستكتشفون أن معظمهم قبض على الكرسي لأكثر من عقدين أو ثلاثة عقود، وبعضهم أكثر من ذلك بكثير.
نعم، إنه مأزق بامتياز، يتطلب من النخب المثقفة مراجعة أفكارها، وحساباتها ومشاريعها وآلياتها.. وإعادة ترتيب أولوياتها، وإنتاج حقائق جديدة. وإعادة النظر في مفهوم المثقف في أزمنة الكرب الشديد.. زماننا الراهن، وفي دور المثقف في مجتمعاتنا المتحولة كدور فاعل، ومنتج للأفكار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"