الموارد الطبيعية والموارد البشرية

03:09 صباحا
قراءة 4 دقائق
د . مصطفى الفقي

هناك دول في عالمنا وهي دول قليلة يقع بعضها في الصف الأول من المنظومة العالمية، وهناك دول أخرى تفتقر إلى أحد الموردين (الطبيعي والبشري )،ومصر تحديداً أقرب إلى هذا النموذج إذ إنها تتمتع بوفرة هائلة من الموارد البشرية في كافة التخصصات ومختلف فروع المعرفة. ولا شك أن الاستثمار في العنصر البشري هو الأجدى على المدى الطويل. فدولة مثل اليابان فقيرة في الموارد الطبيعية ولكنها غنية بالعنصر البشري وخصائصه المتميزة ، بل إن سويسرا أيضا في قلب أوروبا تمثل نموذجاً يقترب من ذلك. ونحن هنا في مصر نمتلك مقومات بشرية فاعلة لا لأن المعدلات العمرية تميل في معظمها نحو الشباب ولكن أيضا بسبب جيوش حملة الشهادات من الجامعات المصرية والأجنبية والكل لا ينسى أن الطبيب المصري هو الذي عالج، وأن المهندس المصري هو الذي بنى، وأن المعلم المصري هو الذي درّس. كل ذلك في وقت كانت فيه المنطقة تسبح في مياه راكدة بينما الإشعاع ينطلق من على ضفاف النهر الخالد،ويهمني هنا أن أعرض لعدد من النقاط المتصلة بقضية الموارد:
أولًا: تحضرني الآن دولتان إحداهما أجنبية والثانية عربية وأحسبهما نموذجين لدراسة الدولة التي تتمتع بالموارد البشرية والطبيعية معا، ف(روسيا الاتحادية) بسبب اتساع رقعتها الجغرافية واختلاف المناخ بين أجزائها وامتدادها الآسيوي الأوروبي تملك من الموارد الطبيعية ما لا يملكه سواها ربما باستثناء الولايات المتحدة . ولقد سمعت الرئيس الروسي بوتين يتندر على من يحاولون مقاطعة بلاده اقتصاديا قائلا:» إننا نستطيع أن نعيش دون حاجة لغيرنا». أما العراق ومعناها (أرض السواد) فهي تملك التربة الخصبة والوفرة في المياه والنفط معاً ،وهذا أمر نادر فضلًا عن كفاءات بشرية مدربة في معظم التخصصات مثلما أن روسيا تملك كوادر بشرية متميزة أيضًا. ولكن العالم لا يمضي على وتيرة واحدة فليست الدنيا كلها هي روسيا أو العراق أو أمريكا إذ إن هناك عوامل تلعب دوراً في تعطيل حركة الدولة مهما كانت مواردها، ولعل النموذج العراقي هو خير شاهد على ذلك حيث إنه رغم وفرة موارده - طبيعية وبشرية - إلا أنه دفع ضريبة غالية بسبب ذلك فكانت موارده نقمة عليه وليست نعمة ومصدراً للأطماع في كل العصور.
ثانيا: إن الكتلة النامية في العالم المعاصر خصوصاً في مجالي الصناعة والسياحة هما الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وذلك لا يقلل من الصحوة القوية للمثلث الآسيوي (الصين واليابان والهند) ، وذلك يعني أن الموارد في النهاية هي الفيصل في التمييز بين مستويات المعيشة في أي دولة، ولابد أن نشير هنا إلى أن تميز العنصر البشري يبقى في كل الحالات علامة مضيئة تسمح لبعض الدول بأن تصنع المعجزات وأن تتقدم نحو المستقبل في ثبات وقوة .
ثالثا: إذا ولينا وجهنا تجاه الشرق فسوف نجد أن المارد الآسيوي الذي أطلقنا على بعض دوله في البداية تسمية (النمور الآسيوية) قد انطلق من عقاله ومضى في قوة نحو الأهداف العليا لتلك المجتمعات الصاعدة، فما يجري في الصين حاليا هو معجزة بشرية بالدرجة الأولى إذ استطاعت تلك الدولة الآسيوية الكبرى أن تحيل المليار ونصف المليار نسمة إلى قوى منتجة تكاد تغزو العالم اقتصاديا، ويكفي أن نتذكر أن ما يقرب من سبعين في المائة من المنتجات الموجودة في الولايات المتحدة هي صناعة صينية، لذلك فإن حديثاً عن حرب عالمية اقتصادية لا يأتي جزافاً ، إذ تحولت الحرب الباردة والصراع السياسي المكتوم بين الشرق والغرب إلى صراع اقتصادي يسعى كل طرف فيه إلى تحقيق معدلات نمو غير مسبوقة، وتعتبر منظمة التجارة العالمية ساحة له. وإذا تطلعنا إلى التجربة الهندية - وقد عايشتها مباشرة لعدة سنوات - سوف نجد أن العنصر البشري الهندي هو الذي حقق نقلة نوعية كبيرة لدولة تتعدد فيها الديانات واللغات والثقافات، حتى أننا لا نكاد نجد قوة آسيوية تزاحم الصين إلا الدولة الهندية بالمليار ومائتي مليون مواطن من ثقافات مختلفة ومجتمعات متباينة. ولعلي أظن هنا أن الهند هي الدولة العازلة بين شرق آسيا وغربها إذ إن تلك الدولة التي تقبع في جنوب القارة الآسيوية هي التي ينتشر أبناؤها في قارات الدنيا الخمس ويتركزون في منطقة الخليج وفي الولايات المتحدة وكندا ومعظم دول أوروبا ، فضلا عن الانتشار القوي في القارة الإفريقية. إذ يبدو الاحتشاد واضحا في صفوف عدة دول كبرى في مقدمتها الولايات المتحدة . فالهند هي التي أدركت أهمية مصر مبكراً والتزمت معها في عصر (جواهر لال نهرو) بسياسة عدم الانحياز والحياد الإيجابي ودخلت في الاتفاق الجمركي الثلاثي الذي ضم يوغسلافيا السابقة ومصر والهند على نحو وفر لها فرصة كبيرة في اكتشاف الشخصيات وسبر أغوارها.
إن الموارد البشرية والطبيعية هما جناحا قاطرة الوطن لمستقبل أفضل أمام كل التحديات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"