بريطانيا وحقيقة أوروبا

06:04 صباحا
قراءة 4 دقائق

تمر أوروبا بحقبة من الانعطاف على مستويات الفكر السياسي والمرتكزات الأيديولوجية الاجتماعية والاقتصادية فلسفة ومنهجاً، وتتجه نحو الانفكاك والانطلاق في مسارب جديدة، وبالأحرى إلى التدهور والسقوط والمعاناة على درب التجربة والخطأ، من دون النظر إلى منجزات الرواد الذين شقوا الطريق أمام موكب الوحدة الأوروبية، وأخذوا بعنان التاريخ، وقادوا القافلة، وتعاهدوا شجرة الحضارة الإنسانية بالعرق والصبر والضرورة الحتمية في مسيرة الحقيقة، وأناروا قرن العبقرية بجهودهم بغية إيجاد منهج جديد في ميدان الفكر والاندماج، ومجرى يشقه سيل ميدان العلم والعمل إلى ملاعب النسور فوق ذرا المعرفة .

ومن بداية الانحسار المتسارع الذي نشهده ابتداءً من تحذير الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لبريطانيا من أن الاتحاد الأوروبي لن يخضع للضغط من أجل إعادة التفاوض على اتفاقياته الأساسية من خلال خطط لندن لإجراء استفتاء، ونقل التلفزيون الفرنسي عن هولاند قوله: يجب أن تؤخذ أوروبا كما هي، يمكننا تطويرها، ولكن لا يمكننا أن نحط من قدرها، أو نقلل منها بذريعة الاستمرار داخلها . وجاء هذا التحذير كرد فعل لتعهد رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون بطرح مسألة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي على البريطانيين في استفتاء، إذا فاز بانتخابات مقررة في عام 2015 . وقال كاميرون: لقد زادت خيبة الناس في الاتحاد الأوروبي إلى حد لم يسبق له مثيل . وسيخوض حزب المحافظين الذي ينتمي إليه كاميرون الانتخابات عام 2015 بوعد التفاوض بشأن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي .

وقد صدم هذا الموقف البريطاني الكثير من زعماء أوروبا، ودعوا بريطانيا إلى عدم التفكير في هذا الأمر . لكن لكل دولة حساباتها التي تنطلق من واقع شعبها وتطلعاته، وما يتوافق مع الشعب البريطاني قد لا ينسجم مع شعوب أوروبا الأخرى، فمن المعروف عن البريطانيين حبهم للعزلة في جزيرتهم الباردة . صحيح أنهم استعمروا العالم لسنوات طويلة، لكنهم لم ينفتحوا على العالم بالقدر الكافي، وعادوا الآن إلى سيرتهم الأولى بعد أن انتهى عهد الاستعمار، وتقلصت وتراجعت قوتهم بشكل لافت في عالم كثير التغير والتبدل .

ومن البداية لم يكن الإنجليز راغبين بالتقارب الكبير مع دول البر الأوروبي، بل إنهم انطلقوا في سياستهم تجاه أوروبا من عقلية فيها الكثير من الرياء والمخاتلة . فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 بهزيمة ألمانيا هزيمة ساحقة، ودخول جيوش دول الحلفاء الأربع (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي السابق، بريطانيا وفرنسا) إلى ألمانيا، وتقسيمها إلى أربعة أقسام، وفق سيطرة كل دولة من هذه الدول على الأرض الألمانية، اتفقت دول التحالف الغربي على دمج الأقسام التي تحت سيطرتها في دولة واحدة سميت ألمانيا الاتحادية، وتم اختيار مدينة بون لتكون عاصمة لها، وبقي قسم آخر تابع للاتحاد السوفييتي سمي ألمانيا الشرقية، وكان يشكل ثلث مساحة ألمانيا تقريباً . ومن ثم طلبت بريطانيا والولايات المتحدة من فرنسا مد يد المساعدة لألمانيا الاتحادية، بهدف طي صفحة الحرب نهائياً، ودفع ألمانيا إلى سلوك نهج مختلف حتى لا تعود لها نزعتها العدوانية تجاه أوروبا، خاصة فرنسا وبريطانيا .

وفي عام 1946 بدأ التقارب بين فرنسا وألمانيا على شكل مبادرة للتعاون في مجال الحديد والصلب، وبدافع الخوف من الشيوعية وكتلتها في أوروبا الشرقية، التي كانت تلقي بظلال واسعة على أوروبا كلها، قررت الولايات المتحدة وبريطانيا توسيع التعاون بين فرنسا وألمانيا؛ ليشمل دولاً أخرى في الغرب الأوروبي، فظهرت السوق الأوروبية المشتركة عام ،1957 التي ضمت بالإضافة إلى فرنسا وألمانيا كلاً من إيطاليا وبلجيكا وهولندا وبريطانيا ولوكسمبرغ، وشكلت هذه السوق منذ إنشائها نموذجاً للتعاون الصادق بين الدول، إذ سرعان ما ظهرت آثار الرفاه الاقتصادي على مواطني دول الغرب الأوروبي، حتى دبت الغيرة في مواطني شرق أوروبا، الذين كانوا يعيشون في ظل أنظمة شمولية شيوعية لم تحقق شيئاً من الرفاه الاقتصادي المنشود . وتطلعت دول السوق المشتركة إلى توسيع تعاونها، فأقامت الاتحاد الأوروبي بموجب معاهدة ماستريخت عام ،1992 وكان هناك اتجاه واسع في غرب أوروبا لجعل هذا الاتحاد بديلاً عن الدولة الوطنية .

وتم الاتفاق على السير بالاتحاد نحو الوحدة الاقتصادية، ومن ثم الوحدة السياسية، وتم تشكيل لجنة برئاسة الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، لوضع دستور أوروبي موحد . وبعد أن تم إعداد هذا الدستور، بدأت بعض الشعوب الأوروبية تتوجس خيفة على كيانها كدولة وطنية أن تطغى عليها الوحدة السياسية، فلقي هذا الدستور معارضة من الشعبين الفرنسي والهولندي، ما أدى إلى إهماله، لكن الوحدة الاقتصادية بلغت مداها مع إنشاء بنك أوروبي موحد أطلق في عام 2002 عملة موحدة سميت اليورو، كبديل عن العملات الوطنية، لكن لم تلبث أن ظهرت الآثار المدمرة للوحدة الاقتصادية الأوروبية، وكانت البداية من اليونان التي تفجرت أزمتها الاقتصادية عام ،2010 وبلغت ديونها نحو 400 مليار يورو، وبشكل يفوق ناتجها القومي أضعافاً مضاعفة، وامتدت الأزمة الاقتصادية لتطال دولاً أخرى مثل إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، ومن ثم فرنسا، وربما تعتبر ألمانيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي ما زالت صامدة أمام رياح الإفلاس التي اجتاحت دول الاتحاد الأوروبي .

ورغم أن بريطانيا ليست جزءاً من منطقة اليورو، فإن انعكاسات الأزمة الاقتصادية الأوروبية داهمتها لأنها شريك اقتصادي لدول الاتحاد، وقد لاحت بوادر هذه الأزمة على الاقتصاد البريطاني - المعروف بأنه من أقوى الاقتصادات في العالم - ولذلك تعالت الدعوات لدى النخب البريطانية للتنبه من خطورة ما يجري في أوروبا على بريطانيا، وبلغت هذه الدعوات حد المطالبة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي .

وقد رأى حزب المحافظين أن الشعور البريطاني الغالب هو الرغبة في الفكاك من هذا الاتحاد، ولهذا اندفع هذا الحزب ليتخذ من هذا الأمر شعاراً في الانتخابات عام 2015 . والواقع أن انسحاب بريطانيا المتوقع من الاتحاد الأوروبي، لن يشكل خطراً على اليورو، لكنه بكل تأكيد سيترك بقية الشركاء الأوروبيين يتجرعون وحدهم مرارة الخروج من أزماتهم الاقتصادية المتلاحقة التي قد تعصف بالاتحاد الأوروبي، وعودة كل دولة من دوله إلى حدودها الوطنية اقتصادياً، وربما سياسياً أيضاً .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"