تأملات محمد بن راشد في بيروت

01:40 صباحا
قراءة 4 دقائق
أكرم مكناس *

الكل يتذكر لبنان عندما كان «سويسرا الشرق»، والكل لديه ذكريات سعيدة وانطباعات جميلة عن العاصمة بيروت، ولكن استعراض تلك الذكريات من رجل فاعل وحكيم وصادق مثل الشيخ محمد إنما أثار مشاعري وترك في قلبي انطباعاً خاصاً.

تأثرت كثيراً بما كتبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عن بيروت في كتابه الجديد «قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً».

يقول الشيخ محمد في كتابه: «ذكرياتي الأولى مع بيروت كانت من بدايات حياتي وأنا صغير، وأنا القادم من صحراء دبي، من بيوتها الطينية، من شوارعها الترابية، من أسواقها المبنية من سعف النخيل». ويضيف سموه، «كانت شوارعها النظيفة، وحاراتها الجميلة، وأسواقها الحديثة في بداية الستينات مصدر إلهام لي. وحلم تردد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوماً ما». وتابع سموه قائلاً «سافرت مع إخوتي إلى بيروت. كان لا بد من المرور بها للوصول إلى لندن. أذهلتني صغيراً، وعشقتها يافعاً، وحزنت عليها كبيراً».

الكل يتذكر لبنان عندما كان «سويسرا الشرق»، والكل لديه ذكريات سعيدة وانطباعات جميلة عن العاصمة بيروت، ولكن استعراض تلك الذكريات من رجل فاعل وحكيم وصادق مثل سمو الشيخ محمد بن راشد إنما أثار مشاعري وترك في قلبي انطباعاً خاصاً.

كم من مرة قلت لنفسي يا ليتنا نعطي لبنان كله وليست بيروت وحدها للشيخ محمد بن راشد ليدير شؤوننا، وأنا على ثقة بأنه سيتفوق على الخلافات الداخلية والنزاعات الطائفية، ويعيد للبنان مجده كواحد من أرقى بلدان العالم.

كنت دائماً أفكر بأن الجهل يخرب البلدان ويهدمها، ولكن الشعب اللبناني ليس جاهلا، فمن هذا الشعب خرج الكثير من الكفاءات والمتميزين، شعب عرف بأنه خلاق مغامر نشيط، ولكننا وقعنا - مع الأسف - في براثن الطائفية المقيتة ولم نستطع الخروج منها حتى الآن.

كما أن الظروف الحالية والتخبط الإقليمي أوقع لبنان في أسوأ حالة، وباتت تتصارع عليه الأيادي الخارجية، فلم يعد لبنان للبنانيين، وإذا كانت فرنسا في وقت من الأوقات قد وضعت يدها على لبنان فقد جلبت له العلم والعمران والحضارة، ولكن ما الذي يمكن للمرء أن يرجوه من وضع إيران يدها على لبنان سوى مزيد من الطائفية والفتن وتردي الخدمات والفقر والانسلاخ عن لبنان العروبة والتاريخ؟

عندما تتكلم مع أي لبناني تدرك أن لبنان لا يزال يعيش بقلبه وبفكره، وفي تفاصيل حياته اليومية، فكل لبناني هو بيروت بكل تاريخها وعراقتها وتعددها، وكل لبناني هو لبنان بجباله وسهوله وبحره ومدنه وقراه. فهناك دول كثيرة في العالم متنوعة الديانات والأعراق كما هو لبنان، لكن جميع سكان تلك الدول اتفقوا على أن الدين لله والوطن للجميع، وانصهروا في بوتقة المواطنة والانتماء للمصلحة العليا المشتركة لهم جميعا، والتي تتركز على النهوض بوطنهم وبناء مستقبل أفضل لأطفالهم، ولم يسمحوا لطغمة من السياسيين الفاسدين بالمتاجرة بالدين والسلاح والوطن.

كتبت كثيراً عن حبي للبنان، البلد الذي ولدت وتعلمت فيه وأنشأت عائلتي وبدايات أعمالي فيه، ومع ذلك، يعتصر الحزن قلبي عندما أدرك أن لبنان، بلد الفكر والثقافة والحرية والتجدد والإبداع، لم يعد سوى ذكرى جميلة للأشخاص من جيلي، وتحول لبنان الذي غنّته السيدة فيروز «لبنان يا قطعة سما» إلى لبنان قطعة الكعكة التي تريد كل قوة طائفية حاكمة أن تنهش أكبر حصة منها، فيما تترك المواطن اللبناني حائراً بتدبير أمور حياته اليومية البسيطة.

لقد أطلق الرئيس الشهيد رفيق الحريري مشروعاً نهضوياً في لبنان، يسانده في ذلك الكثير من الرجال العظماء، وبدأ لبنان يتلمس طرق النور بعيداً عن الطائفية والمحاصصة المقيتة، لكن قوى الرجعية والظلام أزعجها ذلك، لأنها تعرف في قرارة ذاتها أنه لا يمكنها العيش في لبنان الحضارة والعمران وإنما في لبنان الصراعات التي لا تنتهي، فكان أن اغتالت رفيق الحريري واغتالت معه حلم لبنان.

لن أمّل من التأكيد على أن تلك الميليشيات حوّلت لبنان إلى دولة فاشلة، ليس بالمعنى الصومالي لجهة قتال الميليشيات في الشوارع (على الرغم من أن هذا يحدث بين الفينة والأخرى ومن مكان لآخر)، ولكن بمعنى توقف الدولة نفسها منذ فترة طويلة عن العمل، وفشلها في النهوض بمسؤولياتها الأساسية تجاه المواطنين، وعلى الرغم من أن الوضع في سوريا وعدد من دول المنطقة كارثي إلى أبعد مدى، إلا أن لبنان ليس بمنأى عن الانفجار في أية لحظة، فهو يدار الآن من قبل نفس الفصائل والأفراد الذين حاربوا بعضهم البعض خلال ما سمي بالحرب الأهلية، ويستعر الاقتتال الطائفي تحت ستار سياسي، والكل يريد أن ينهش أكبر قطعة ممكنة من الكعكة، حيث إن توزيع المناصب يجري بناء على المحاصصة الطائفية وليس على الكفاءة، وكبار السياسيين يستمدون قوتهم وأسباب وجودهم من استقوائهم بهذه الدولة الأجنبية أو تلك، وليس بناء على ما يقدمونه لوطنهم، وهم بكل الأحوال عاجزون عن ممارسة سلطاتهم كما يجب أو اتخاذ أية قرارات ذات معنى.

أريد أن أطمئن سمو الشيخ محمد بن راشد الوفي النبيل إلى أن لبنان الفكر والخلق والإبداع لم يمت، وأن هناك رجالاً يعملون بلا كلل من أجل إعادة لبنان وبيروت إلى ما كانا عليه من حضارة وتقدم ونظافة، وأريد أن أطمئن سموه أيضا إلى أن بيروت تعرضت للكثير من المصائب والنكسات عبر تاريخها، من حروب ونكبات، لكنها تمكنت في كل مرة من إعادة بناء نفسها من الركام، ووجدت طريقها للمجد من جديد.

* رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسيفن القابضة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"