ساعة قبل الغروب

04:45 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

إسطنبول .. المدينة الأكبر في تركيا، والتي لم تفقد سحرها ووزنها السياسي، رغم مرور قرابة مئة سنة منذ أن تخلى عنها مصطفى أتاتورك، واختار أنقرة على هضبة الأناضول عاصمة لتركيا الحديثة.
من هذه المدينة العريقة صعد رجب طيب أردوغان، إلى وسادة السلطة، حاملاً معه الفرع التركي ل«الإخوان المسلمين»، وفي الدولة التي اتخذت من العلمانية مفخرة وسبيلاً إلى ارتياد العصر بعد خمسة قرون من عبث العثمانيين بالعالم الإسلامي عادت رائحة الانكشارية، تفوح بعد أن تحولت إلى مركز لقادة «الإخوان المسلمين»، الذين يصدرون من هناك الإرهاب إلى بلدانهم.
والآن من المدينة نفسها، بدأ سقوط أردوغان وحزبه، وقد كانت الانتخابات معركة عاصفة، أكدت موقف جماعات «الإخوان» المعادي للديمقراطية؛ إذ هي عندهم بضاعة غربية محرمة، هكذا كانوا يصرحون بملء إشداقهم قبل أن يجدوا فيها طريقاً يسلكون منه بالتزوير وبالغواية إلى سدة الحكم.
في المعركة الخطيرة وفي المدينة المهمة، خسر مرشح حزب العدالة والتنمية، أمام الوجه البارز في المعارضة بفارق ضئيل، ولأول مرة في تاريخ المنافسات الانتخابية يطعن الحزب الحاكم وليس المعارض، في البداية يطالب بإعادة فرز الأصوات ولا تتغير النتيجة ثم يصمم على تصويت جديد فيدهمه الخبر بهزيمة ساحقة وماحقة.
إن لجنة الانتخابات، التي اعتمدت النتيجة وسلمت مفتاح المدينة لحاكمها الجديد، تراجعت بعد 18 يوماً، وقررت إجراء التصويت مرة ثانية، وكان مقدراً، والحال هكذا، أن يتمسك مرشح المعارضة الفائز بالمكسب ويتشبث بالكرسي ولا يخرج من مكتبه إلا على جثث الناس، هناك بالذات حقق أكرم أوغلو انتصاراً أخلاقياً مجيداً قاده إلى الانتصار السياسي الصاعق وعوضاً عن خطوة صغيرة فصلته عن رئيس الوزراء السابق، ألقاه خلفه على مسافة طويلة، ولم يجد أردوغان وحزبه غير تجرع المرارة، لكن المعركة لم تكتب فصلها الأخير، بالرغم من أنها عند أسطره الأخيرة، فأردوغان مقاتل شرس وسياسي ماكر، وهو يعرف أن إسطنبول تؤمن الطريق أمام العمدة الجديد إلى الرئاسة في 2023.
ولقد رأينا يلدريم يهنئ، منافسه بوجه متجهم، ومثله بدت ملامح أردوغان، لكننا لا نستطيع أن نجاريهم بأنهم قادرون بالحيلة أو بالطغيان، أن يكتبوا حياة مديدة للجماعة الغارقة في براثن الماضي فوق الدولة التي تمتد واصلة بين طرفي أوروبا العجوز وآسيا المتوثبة، وذلك تحد أكبر أمام الأتراك وأمام العرب والمسلمين، الذين باتوا يرون أن دينهم الذي جاء رحمة للعالمين يكاد مع هذا اللون من السياسيين يتحول أداة لاجتراح الفشل دون أن أقول لممارسة الجريمة.
قرابة قرن على ولادة تركيا العلمانية تضاهيها في عدد السنين والحساب، الفترة التي انصرمت على مولد حركة «الإخوان المسلمين»، والحركة خلقت أجيالاً من العنف منذ أسس حسن البنا النظام الخاص مطلع الأربعينات، وافتتح موجة الاغتيالات في مصر ثم تواصلت من بعده على مدى العقود وأنتجت نموذجاً للإرهاب عابراً للقارات، شقت طريقاً وعراً ودامياً إلى صدارة المشهد السياسي حتى بلغت أعرق القصور في إسطنبول، وفي القاهرة، وفي غيرهما، لكنها الآن أخذت تتراجع وتتطوح منذ سقوطها المدوي في القاهرة وحتى انهيارها المخزي في السودان.
إن ذلك بالتأكيد علامة واضحة كالشمس على أن «الإخوان المسلمين»، يكتبون الصفحة الأخيرة في الأسفل الغث ويقطعون أصعب الخطوات في طريقهم الدامي.
لكن من اللازم الشهادة لأردوغان، أنه لم يخرج من عباءة تركيا، بل تمسك بها إلى درجة الشوفينية، وأظهر استعداداً وتصميماً على اضطهاد القوميات الأخرى حتى تلك التي تعتنق الديانة نفسها.
وأردوغان، تتملكه نزعة استعمارية خبيثة؛ إذ يحاول بالغطاء الإسلامي، أن يفرض سلطاناً باغياً في العالم العربي.
وقد يفهم من دوره في سوريا والعراق، أنه أسير العقدة التركية، لكن ماذا عن ليبيا؟ ذلك هو الطموح الإمبراطوري في المقام الأول، وفي أحد وجوهه مطلوب رأس مصر ليس لأنها أسقطت حكم «الإخوان»، لكنه الثأر التاريخي من مصر التي وصل جيشها ذات يوم إلى مسافة خمسين ميلاً من القسطنطينية وقاد الأسطول العثماني مخفوراً إلى الإسكندرية.
إن تجربتهم كلها فاحشة وفاضحة، إذ استطاعوا بالضلالة وبالهوى أن يحفروا قبورهم؛ حيث أرادوا أن يحفروا قبوراً لشعوبهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"