ضبط الأخلاق

04:11 صباحا
قراءة 5 دقائق

في رواية قصيرة للكاتب أنتوني بيرغيس بعنوان البرتقالة الميكانيكية (أخرجها ستانلي كوبريك فيلماً للسينما)، يُرغَم أليكس، الشخص السيكوباتي الكاره للمجتمع والذي لا يشعر بأي ندم على أفعاله، بالاستعانة بأداة خاصة على فتح عينيه على مصراعيهما ومشاهدة صور عنيفة . وعلى غرار تجربة كلب بافلوف، تجري برمجة أليكس بحيث يستجيب للعنف والجنس بالشعور بغثيان شديد . والحق أن هذا المشهد يظل يثير في النفس شعوراً بالصدمة، ولكنه كأغلب أعمال الخيال العلمي بات عتيقاً ونالت منه الشيخوخة . ذلك أن علم النفس السلوكي الذي تستند إليه مثل هذه الأعمال بوصفه مصدراً لها انتهت صلاحيته وأصبح ذكرى من الماضي، منذ أمد بعيد، بل إن الخوف من استخدام العلم في المستقبل وسيلة لجعل الناس أفضل على المستوى الأخلاقي، أو حتى إرغامهم على ذلك، يبدو الآن كأنه موضة قديمة .

إن الخيال العلمي يشيخ بسرعة، ولكنه يتمتع بحياة طويلة بعد انقضاء عمره . فعلى مدى الأعوام العشرة المنصرمة، انهمك جيش من علماء النفس، والأعصاب، والبيولوجيا التطورية، في محاولة للكشف عن الآلية العصبية التي تستند إليها الأخلاق البشرية . ولقد استهلوا عملهم بتتبع الأصول التطورية للمشاعر والسلوكيات الاجتماعية الإيجابية، مثل التعاطف مع الغير والحس بمشاعرهم، فبدؤوا بالكشف عن الجينات التي تجعل بعض الأفراد يميلون إلى الانخراط في أعمال عنف حمقاء لا مبرر لها، وتجعل آخرين يميلون إلى أعمال الخير والإيثار، فضلاً عن الكشف عن المسارات في أدمغتنا التي تشكل قراراتنا الأخلاقية . ولا شك أن فهم الكيفية التي يعمل بها شيء ما، يعني أيضاً البدء في التوصل إلى السبل الكفيلة بتعديل عمل ذلك الشيء أو حتى السيطرة عليه .

والواقع أن العلماء لم يتعرفوا إلى بعض المسارات في الدماغ التي تشكل قراراتنا الأخلاقية فحسب، بل إنهم توصلوا إلى تحديد المواد الكيميائية التي تعمل على ضبط أو تعديل مستوى هذا النشاط العصبي أيضاً . فقد أظهرت دراسة حديثة أن الدواء المضاد للاكتئاب سيتالوبرام قادر على تغيير استجابات الأفراد لسيناريوهات تشتمل على معضلات أخلاقية افتراضية . فكان الأفراد الذين أعطوا هذا العقار أقل استعداداً للتضحية بفرد واحد في سبيل إنقاذ أرواح أشخاص آخرين . كما أظهرت سلسلة أخرى من الدراسات أن هرمون الأوكسيتوسن (هرمون معجل للولادة ومدر للحليب في ثدي المرضع)، عندما يُعطى رذاذاً في الأنف، يعمل على زيادة الثقة بالناس والسلوك التعاوني بين أفراد الجماعات الاجتماعية، ولكنه يعمل كذلك على الحد من الرغبة في التعاون مع أولئك الذين يُنظَر إليهم باعتبارهم غرباء . حتى إن علماء الأعصاب ذهبوا إلى توجيه مجال مغنطيسي دقيق لبعض مناطق من أدمغة الناس بهدف التأثير في أحكامهم الأخلاقية على نحو مدهش على سبيل المثال، جعلهم أكثر قدرة على الكذب .

بطبيعة الحال، لا أحد يعمل الآن على إنتاج حبوب للأخلاق قادرة على تحويلنا إلى قديسين . ولكن العمل البحثي يتقدم بسرعة كبيرة، ويكاد يكون من المؤكد أن الأبحاث تشير إلى وجود سبل جديدة لإعادة تشكيل حدسنا الأخلاقي، ومشاعرنا، ودوافعنا . ولكن هل ينبغي لنا أن نستخدم فهمنا العلمي المتزايد للأسس التي تقوم عليها الأخلاق البشرية في محاولة لجعل الناس أفضل أخلاقاً؟

لقد اتُهِمَت رواية البرتقالة الميكانيكية بتمجيد العنف، ولا يزال من الصعب تقبل بعض مشاهدها . ولكن كما يزعم بيرغيس ذاته فإن روايته القصيرة تكاد تقدم رسالة مسيحية: فما يجعل منا بشراً هو حريتنا في الاختيار بين الخير والشر، وإقدام المجتمع على سحق الأفراد ودفعهم إلى شكل من أشكال التطابق الخَنوع يُعَد تصرفاً وضيعاً شريراً، بل وربما كان أسوأ من سادية السيكوباتيين من أمثال أليكس .

وأظن أن العديد من الناس سوف يتفقون مع هذا الرأي، وسوف يجمعون على أن قدرتنا على التمييز بين الصواب والخطأ تشكل قيمة ثمينة يتعين علينا أن نضمن حمايتها، وهي ليست ساعة معطلة يتعين على العلماء إصلاحها .

لا شك أن أغلبنا لا يحتاجون إلى إعادة تكييفهم بحيث يشعرون بالنفور والاشمئزاز من الاغتصاب أو التعذيب . ولكن هذا لا يعني أننا جميعاً على مستوى أخلاقي جيد، أو جيد بالدرجة الكافية . ففي الوقت نفسه الذي تقرأ فيه هذا المقال، هناك أناس عاديون تماماً في مكان ما من العالم، يرتكبون أفعالاً لا يمكن وصفها في حق أناس آخرين . فحتى في أكثر المجتمعات تقدماً وثراءً، يتطلب الأمر جهوداً مكثفة للحفاظ حتى على القدر الأدنى من اللياقة: فكروا في الأقفال، وأجهزة الإنذار، والشرطة، والمحاكم، والسجون . ومن المشكوك فيه أننا نهتم بالدرجة الكافية حقاً بمشاعر الآخرين، أو نعطي بالقدر الكافي من السخاء من هم أقل منا حظاً .

إن البشر يولدون وهم يتمتعون بالقدرة على الالتزام أخلاقياً، ولكنها قدرة محدودة وغير مجهزة للتعامل مع التعقيدات الأخلاقية التي يعج بها عالمنا الحديث . فعلى مدى آلاف السنين اعتمد البشر على التعليم، والإقناع، والمؤسسات الاجتماعية، والتهديد بالعقوبة الفعلية (أو الغيبية) لحمل الناس على التصرف اللائق . وقد نكون جميعاً أفضل من الناحية الأخلاقية، ولكن من الواضح أن هذا النهج التقليدي غير قادر على حملنا إلى ما هو أبعد من ذلك . فالأمر ليس وكأن الناس قد يبدأون فجأة في التصرف على نحو أفضل إذا قدمنا لهم المزيد من الحقائق والإحصاءات، أو الحجج الأكثر وجاهة .

لذا، ينبغي ألا نتسرع في رفض مقترحات من يزعمون أن العلم قد يفيد في هذا السياق، من خلال مساعدتنا على تصميم مؤسسات أكثر فعالية في المقام الأول، وأساليب أكثر إلهاماً في تعليم القيم الأخلاقية، أو منحنا من الحجج الأخلاقية ما هو أكثر إقناعا . ولكن العلم قد يقدم أيضاً سبلاً أكثر مباشرة للتأثير في عقولنا .

كل ذلك مجرد مسائل افتراضية بطبيعة الحال . فنحن لا نعرف بعد ما هو ممكن في هذا الصدد . ولكن من الأفضل أن نبدأ المناقشة الأخلاقية قبل أوانها، وليس بعد فوات الأوان . وحتى لو كانت حبوب الأخلاق مجرد خيال علمي، فإنها تثير تساؤلات عميقة . فهل نجد في أنفسنا الرغبة في تناولها إذا أصبحت متاحة؟ وبأي شيء قد ينبئنا امتناعنا عن تناولها؟

* نائب مدير مركز أوهيرو للأخلاق العملية التابع لكلية الفلسفة بجامعة أكسفورد .

* والمقال ينشر بترتيب مع بروجيكت سنديكيت .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"