عودة إلى القطبية

04:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

في السبعينات أنشأ كاتب عربي قائلاً إنه إذا انهار الصراع بين القطبين الدوليين لمصلحة المنظومة الغربية، سيدخل العالم عصر البربرية . في أوائل التسعينات، وحين كان الاتحاد السوفييتي يلفظ أنفاسه الأخيرة كدولة فيدرالية عظمى قائدة للمنظومة الاشتراكية، قادت الولايات المتحدة هجوماً ساحقاً أعاد العراق عقوداً إلى الوراء، ومهّد لأطول حصار اقتصادي في التاريخ وحرم العراقيين من حليب الأطفال إلى أقلام الرصاص . حينها وقف الاتحاد السوفييتي متفرّجاً مثلما فعلت بوركينا فاسو مثلاً .
أواخر الثمانينات، بدأ قطعان اليهود الروس يغادرون بلادهم للاستيطان في فلسطين، من دون أن يسفر الموقف المعلن من القيادة السوفييتية التي كانت تحتضر عن أي شيء ذي معنى، إذ أن اشتراطها عدم "سكن" هؤلاء في "المناطق المحتلة عام 1967"، رد عليه شمعون بيريز بالقول المستخف "عندما يصلون إلى هنا لا أحد يتابعهم إلى المكان الذي سيتوجّهون إليه . كان الاتحاد السوفييتي يجرّب سياسة المصالح على حساب المبادئ، لكنّه لم يكسب المصالح بعدما خسر المبادئ، مثلما غادر الاشتراكية من دون أن يصبح رأسمالياً .
بعد الانقلاب الفاشل الذي أخرج غورباتشوف في أضعف حالاته، كان متوقّعاً أن تؤول القيادة في الاتحاد السوفييتي إلى بوريس يلتسين الذي كان يتزعّم الثورة المضادة في المشهد الفكري والسياسي . وما أن تسلّم السلطة حتى ترجم البريسترويكا الغورباتشوفية إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي وتأسيس "رابطة الدول المستقلة" التي لم تفهم من ذلك "الاستقلال" سوى الارتماء في أحضان الغرب وحلف الناتو الذي توسّع على حسابها، رغم أن تأسيسه كان بذريعة التضاد مع حلف وارسو الذي انهار أيضاً .
عام ،1993 اجتاحت القوات الأمريكية الصومال، ولولا المقاومة المؤلمة التي قوبلت بها والخسائر الفادحة في صفوفها، لأقامت "منطقة خضراء" في مقديشو وبقيت فيها إلى اليوم . في العام ذاته توصّلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" إلى اتفاق في ظلام أوسلو وبعيداً عن أضواء مدريد، ووقعتا الاتفاق تحت رعاية بيل كلنتون في البيت الأبيض وتحت رعاية الولايات المتحدة التي احتكرت، ولا تزال، مفاتيح التسوية وأفشلتها بسبب انحيازها المطلق وتبنيها الكامل للمواقف "الإسرائيلية" . ولم تسمح أمريكا للعقد الأول لتفرّدها في قيادة العالم بالمرور من دون تكريسها القطبية الأحادية، فقادت "الناتو" في عملية قصف يوغوسلافيا وإسقاط نظامها واعتقال رئيسها رغم الرفض اللفظي من روسيا بوريس يلتسين، الذي لم يمنع انهيار دولة الاتحاد اليوغوسلافي وتقسيمها .
نهاية ذلك العقد شهدت أيضاً استقالة يلتسين وصعود فلاديمير بوتين إلى سدة السلطة، ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى لمس الروس تغيّراً واضحاً، وبخاصة على المستوى الاقتصادي والمعيشي . لكن ملامح روسيا الجديدة، روسيا ما بعد اليلتسينية، لم تتضح إلا عام 2008 عندما شنت حرباً مباغتة وحاسمة على جورجيا، تحت سمع وأنظار الغرب الذي وقف عاجزاً عن فعل أي شيء لحليفه الجورجي الذي يتباهى بأن بعض وزرائه يحمل جنسية الكيان الصهيوني، فضلاً عن وجود عدد من الخبراء "الإسرائيليين" على أراضيه .
منذ ذلك الحين، بدأ العالم يستعيد توازنه بالوقوف على قدمين، بعد عقدين من التفرّد الأمريكي، ومن حق الشعوب المستضعفة أن تتنفّس الصعداء، لأن عودة نظام القطبية يطوي صفحة عقدين من الدماء والدمار .
[email protected]


 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"