قرارٌ بنقرة زر

03:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
عائشة عبد الله تريم

بعد عشر سنوات من التواصل الاجتماعي، قررت ألا أتواصل، وها قد مضى شهر وأنا بعيدة عن عالم ودعته بملء إرادتي بعدما سجلت فيه حضوراً ومشاركات عديدة.
في أسطر معدودة، نشرت في مواقع التواصل رسالة وداع ذكرت فيها مدى إخلاصي ووفائي ومشاركتي أصدقائي محطات كثيرة في حياتي المهنية والخاصة، وقلت للأصدقاء في العالم الافتراضي إنني قررت الانقطاع عن هذا العالم المشترك فيما بيننا إلى أجل غير مسمى.. وذيلت الرسالة بأمنياتي للجميع بالخير، وبنقرة زر سجلت الخروج.
لا أذكر أنَّ هناك سبباً محدداً دعاني لاتخاذ ذلك القرار، ففي لحظات غير متوقعة، قفزت بمفردي من السفينة، وتركتها تمخر عباب بحر التواصل الاجتماعي بمن حملت. خطوة تحتاج حتماً إلى جرأة، فما الذي دفعني إليها من دون تخطيط ؟ أحياناً نتخذ قراراً من غير سبب واضح بعدما نشعر أن أموراً في حياتنا قد تشابكت وتضاربت.
لم يكن ما فعلته خطوة تحذيرية مما يكتنف مواقع التواصل الاجتماعي من سلبيات، كما أنه لم يكن بالتأكيد محاولة لتسليط الضوء على إيجابياتها، ففي ذلك الفضاء الافتراضي، كما هو الحال في العالم الواقعي، قد نصادف الجميل والقبيح. وإذا كان العالم الافتراضي يتيح لنا فرصة التنقل في المواقع بحرية تامة ومن غير أن نكشف عن هويتنا أحياناً، لكننا في النهاية بشر، أي مخلوقات لديها عيوبٌ، تحكمها غريزة الخوف وتغلبها الرغبة في بلوغ الكمال.
ومن هذا المنطلق، نعيش اليوم في عالمين نسعى فيهما إلى الكمال مستهلكين طاقاتنا في علاقات التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي. لكن الدافع مختلف تماماً عما يحدث فعلاً، فخلال علاقاتنا، قد تُنكأ جروح قديمة، وقد تحدث جروح جديدة، ذلك أنَّ التعامل المتواصل لسنوات مع وسائل التواصل، يجعلنا نواجه تياراً من المعلومات اللفظية والبصرية، قد تطفئ في البداية ظمأ عقولنا التواقة للمعرفة، وتشبع نهم فضولنا يوماً بعد يوم، لكن هذا التدفق من المعلومات يتحول بعد فترة من الزمن إلى سيل جارف يهدد أدمغتنا ويجعلها متحفزة باستمرار فتصاب بالإجهاد.
حين قال الشاعر العربي العباسي الكبير سلم الخاسر «من راقب الناس مات هماً»، لم يكن يعلم أن كلماته ستعكس حالنا اليوم في مواقع التواصل، وأنها ستصف بدقة ما يجري في هذا الزمن، حيث كل تصرفات الناس وأفعالهم مراقبة ومكشوفة على الملأ.
قد يدافع البعض عما يحدث من منطلق أنه حرية شخصية، لا تتعدى رغبة الشخص في متابعة وتعقب تحركات الآخرين بأدق تفاصيلها، فمن لا يريد معرفة ما يفعله الغير يستطع تسجيل خروجه من أي موقع تواصل يتفاعل معه. لكن الأمر في الواقع ليس بهذه البساطة، فقرار الانسحاب من مواقع التواصل الاجتماعي لا يختلف عن قرار ترك التدخين أو الكحول أو أي عقاقير تسبب الإدمان، والأمر يحتاج بلا شك إلى عزم وإرادة، قد لا يملكهما كل الناس.
وفي اليوم الذي سيدرك فيه العالم ذلك، يصبح البحث عن حل للشفاء أسهل. فالتواصل عبر هذه المواقع، يخلق حالة من التبعية تجعل المرء مبرمجاً للضغط على زر «تحديث»، فيشعر كأن العالم سينهار حوله إن لم يفعل. لذا ترى متابع وسائل التواصل قلقاً ومتلهفاً دوماً لمعرفة أحدث ما يرده منها وكأن مصير الإنسانية متوقف على السرعة التي يتلقى فيها المعلومات.
لا أدري كيف يتعامل الآخرون مع قضية الإدمان هذه حين يكتشفون حقيقة ارتباطهم بهذا العالم، لكنني، من خلال تجربتي الشخصية، أعترف أنني تحججت لسنوات طوال بضرورة التواصل المستمر مع العالم الافتراضي لمعرفة الأخبار ومتابعتها بما تفرضه عليَّ طبيعة عملي. وقد كان هذا السبب كافياً ومنطقياً كي أغوص في أعماق هذا العالم. وعلى الرغم من أنني لم أكن أستخدم مواقع التواصل مثل «تويتر»، «فيسبوك»، «سناب تشات» أو «إنستغرام» بفاعلية كما يفعل الكثيرون، وعلى الرغم من أنني كنت أكتفي بتصفحها يومياً وعلى مدار الساعة، فقد عبرت ملايين الفِكَر والصور والانطباعات العشوائية دماغي، وإن كنت لا أذكرها اليوم كلها. وظللت لفترة طويلة مصابة بعادة «التحديث» بحثاً عن المزيد.
عندما أفكر بعدد الكتب التي كان بإمكاني قراءتها في ذلك الوقت، وبعدد المقالات التي كان بإمكاني كتابتها، ينتابني شعور بالندم على وقت أهدرته في معرفة وقتية وعابرة. ولقد دفعني تراكم هذه المشاعر السلبية إلى السعي إلى الانفصال التام، فانسحبت دون أن أنظر خلفي. في الأيام الأولى، شعرت بحالة من السريالية سببها غياب ذلك العالم بصوره العديدة التي توثق أفضل لحظات يعيشها الناس، فقد اختفى ذلك الثقب الذي يدخل فيه المرء حين يُشار إليه بالصمت أو التوقف عن الكلام أثناء محادثة ما، إذ لم تعد بداية يومي مكرسة لما يجول في فكر الآخرين ولما يزودوننا به من أخبار وأحوال... راحت أناملي تمتد لا شعورياً إلى مكانها المعتاد على الهاتف حيث تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، وكنت أشعر للحظات بأمر غريب حين لا أعثر على ما أبحث عنه.
وبعد عدة أيام، انتابني شعور بالوحدة لم أعرفه منذ سنوات، لكنه شعور مريح حررني من الكثير من القيود. فأنا لم أعد مرتبطة بجهاز، ورجعت إلى عالم واقعي ملموس وغير مرشح. اقتربت منه أكثر فأحببته بكل عيوبه.
بعد تجربتي المريحة هذه، لا أحث الناس بالطبع على ترك وسائل التواصل الاجتماعي، لكنني أقدم للجميع نصيحة بأن ينالوا قسطاً من الراحة منها. فترة تطهير باختيارهم، قد تمتد لأيام، أو أسابيع. هي مرة في كل فترة، يقطع فيها المرء اتصاله مع الحشود ويعيد اتصاله مع ذاته، لأننا كلما عشنا بمنظور الآخرين، كلما فقدنا خصوصياتنا. وكما يقوم المرء بتنظيف جسده، فإنه مدين لنفسه بتطهير عقله. لن يكون الأمر سهلاً، لكن النتائج الحقيقية لا تأتي بسهولة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"