لكل موقف ثمن

04:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

الملاحظة المغلّفة بالنقد والاتهام التي أطلقها رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين، حول تقلب سياسة الدول الكبرى تجاه الأوضاع في مناطق شمالي إفريقيا، لا تجانب الصواب، وإن كانت لا تخلو من اتهام لروسيا نفسها .

بوتين قالها بكل بساطة هناك نوع من الغطرسة تميزت به سياسة دول غربية متكبرة كانت تدعم أنظمة في شمال إفريقيا ثم دعمت الثورات التي أطاحتها . وهو هنا يشير بلا شك إلى حالات تونس ومصر وليبيا، وكيف أن دولاً عظمى مالأت ليلاً الأنظمة الاستبدادية السابقة في هذه الدول، ودعمت سياساتها القائمة على القمع والظلم والاستبداد، واستفاقت صباحاً لتساند وتدعم ثورات الشعوب فيها، كأنها تغير مواقفها كما يغير المرء ملابسه، وكأن هذا قدر المنطقة التي عانت النكبة تلو النكبة على أيدي أنظمة سلبت حريات وثروات ومقدرات شعوبها، وما كان من القوى الكبرى إلا أن صمتت وصمّت الآذان، ومن ثم عندما مالت الكفة باتجاه الشعوب، عادت القدرة على السمع بأعجوبة إلى أولئك الصم البكم، وانطلقت ألسنهم لاهجة بدعم إرادات الشعوب، في انقلاب على موقف الأمس، وسعياً للإبقاء على قطار المكاسب على سكته .

ما يحدث في المنطقة، وكيف آلت مواقف القوى الكبرى وتحولت، أمر لا يبعث على الاستغراب والعجب اللذين لاذ بهما السياسي الروسي المرموق، في تشخيصه لأحداث المنطقة المتفجرة، لكنه مع ذلك أمر لا يضع روسيا في موقع مغاير، وإن كانت حافظت على نوع من الحياد الذي فرضته بالدرجة الأولى مصلحة روسية محضة، ورغبة وإرادة سياسية ليس من المتوقع أن تلتقي مع الغرب الغارق في التدخل الفج في كثير من الأحيان في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، والمغرق في محاولات اختراقها بكل الوسائل المتاحة، خصوصاً بعدما أثبتته الثورتان في تونس ومصر من رغبة شعبية حقيقية في وقف الارتهان إلى الخارج، ووضع نموذج محلي للديمقراطية كما تريدها الشعوب، وليس بناء على قالب جاهز يحاول الغرب إسقاطه عليها ب الباراشوت .

في عالم السياسة الدولية الحديث لا يأتي أي موقف من هنا أو هناك بالمجان، فلكل موقف، سواء أعجبنا أو ساءنا ثمن، وهذا الثمن بالضرورة مطلوب من حساب المنطقة وشعوبها، التي عانت طويلاً من دفع الثمن غالياً من مقدراتها وثرواتها وقوت أبنائها، وفي كثير من الأحيان من مواقفها السياسية حيال قضايا المنطقة المصيرية والشائكة .

هل بات قدر المنطقة الاستمرار في دفع الثمن الغالي لتهافت القوى الدولية الكبرى، ومغالاتها في بيع وشراء الشعوب، والمتاجرة حيناً بأنظمة مستبدة نخرها الفساد والظلم، وحيناً آخر بتعطش الشعوب المقهورة الثائرة للحرية والعدالة؟ أم أن السياسة الدولية لا تستوي من دون تجارة عابرة للحدود والإيديولوجيات والثقافات همها تعظيم المكاسب فقط، من دون أدنى حساب للمبادئ التي يحاضر فيها أصحابها على مسامعنا إذا ما مالت الكفة لمصلحة طرف من دون آخر؟

الكرة الآن ليست في ملعب هذه القوى العظمى، بل في ملعب الشعوب التي اختارت التغيير، وفجّرت طاقاتها الكامنة في وجه أنظمة طال الصبر عليها، وأخذت من وقت وثروة ولقمة عيش الشعوب الأغلبية العظمى، ولم تترك لها سوى فتات لا يقيم الأود، ولا يسمح لها برفع الصوت .

على شعوب المنطقة التنبه أكثر إلى أنها قد تصبح في أية لحظة هدفاً أو فريسة لموقف مدفوع الثمن مسبقاً، وعليها أن تعي أن عبارات الإشادة والدعم من قوى دعمت جلاديها سابقاً لا تغير حقيقة الأهداف ولا السياسات الهادفة إلى مصادرة حقوقها في التقدم وتقرير المصير واستقلال القرار، كي لا تظل من يدفع الثمن على الدوام .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"